عذابات سامية الزغلامي: معرض رسوم بمقهى الجريدة بالمرسى

عديدة هي الآراء الّتي تتمّ صياغتها حول الفنّ المعاصر وضروراته، وذلك حسب ثقافة صاحب الرأي وتكوينه وتصوّراته،

لذلك يقفز إلى الذّهن ارتباط المعاصر من الفنّ بأشكال فنّية غير اللّوحة. لكن ومهما يكون الأمر، فإنّ الرّسم والتّصوير يظلّان وتظل اللّوحة -هي الأخرى- حمّالة للرّؤى والمعاني ووسيلة لنقل الذّبذبات من أعلاها ارتفاعا إلى أقلّها حدّة.

تعرض سامية الزغلامي وإلى حدود يوم 22 من الشّهر الجاري مجموعة من اللّوحات بأحجام مختلفة من الصّغير إلى الكبير ومن المربّع إلى المستطيل. وليس هذا أوّل معرض لها بنفس المكان، أي مقهى الجريدة بالمرسى، حيث سبق لها أن قامت بالعرض هناك كما شاركت في عديد المعارض بتونس وبالخارج. وهي عصاميّة التّكوين، يسوس عملها حدس وحسّ عميقان مرتبطان بقراءة الحاضر بجميع معطياته وبقراءة شخصيّتها الفرديّة. وتقوم بترجمة هذا الحسّ عبر مخيّلة قد ترجعنا إلى بدايات القرن العشرين كما تفتح لنا شهيّة استشراف السّنين القادمة. بنزعة تعبيريّة حرّة وبتشخيص لا يتكئ على التّتلمذ على المنطق الأكاديمي في بناء الفضاء التّشكيلي وبفطريّة عميقة الإحساس بضرورة التّعبير بالأدوات التشكيليّة، تسوق لنا سامية الزغلامي هواجسها وترسم أشخاصها ولوحاتها بطعم البشرة المتقشّرة أو الّتي تبحث عن الاستيضاء باللّون والمادّة اللّونيّة الدّهنيّة من الألوان الزيتيّة. وهو اختيار لم يعد دارجا لدى الفنّانين من المحدثين والمعاصرين، إذ يغلب استعمال الأكريليك على الألوان الزّيتيّة. لذلك لاحظنا كيف تسعى سامية إلى إحلال الحسّ اللّمسي في لوحتها من خلال معالجة مرهفة تراوح بين القلع والإضافة والمسح وإعادة تمرير الألوان محلولة أو عجينة في ثخونة متنوعة الكثافة. وبهذه اللّعبة البسيطة تعطي للوحته ميزة الحسّ اللّمسي وتجعلنا نتخاطب مع بشرة اللّوحة وكأنّها كائن حيّ مثير للبصر وللّمس.

عذابات سامية الزغلامي هي تحدّيات للأوضاع الجماعيّة والأوضاع الفرديّة وإعلانات الرّغبة في طرح القضايا على تنوّعها وأهمّيتها اجتماعيّا ونفسيّا وسياسيّا. شخوص منفلتة من الجاذبيّة تتعانق تتقابل تتكاثف فوق مساحات أحيانا تكون صغيرة وأخرى تكون كبيرة. تصوغ لها سامية الزغلامي بعد الحكاية فتجعل من متلقّي العمل يبحث في الما- وراء ولا يقف عند ما ينظر إليه، بل يجول بناظره في المقهى ليبحث عن نظائر أو عن صنوّ لأيّ شخص في اللّوحة. وتحمل اللّوحات صياغة حكائيّة ومشهديّة لأوضاع ووضعيّات إنسانيّة دقيقة الاختيار تبعث على التّذكّر وعلى تفكّر الوقائع: يد تمتدّ من خارج اللّوحة لتقطع الإطار وتلتحف يد شخص مرسوم بحضوره الذّاهل وشخصان يتبادلان الحركات عبر الأيدي والنّظر وأحاديث صامتة. لوحات الوشوشات الخفيّة لخطاب أزلي يحمل كنه الوجود في طيّات الألوان ويعبّر عن المواقف. وليست العبرة في أن نعرف أو تكون لنا معرفة، العبرة أن نعي ونستشعر آلام الشخصيات الّتي تنوب عن الرّسامة فتقوم بوظيفة السّرد الصّامت وتجعل المتلقّي يحدّث نفسه.

لأشخاصها الباهتة والغارقة في التّفاصيل كنه الشّخصيّات الرّوائيّة أو الفلميّة الّتي تخرج من شاشة الرؤية لتبهر نحو ذوات المتلقّين في كساء لوني يسيطر عليه البنّي والتّرابي ويؤجّج ضوءه البرتقالي المتجانس معها والمتباين مع لوينات زرقاء تجيد سامية التأليف بينها وبين الرّماديّات والأبيض والأسود من القيم الضّوئيّة. بهكذا اصطناع للألوان وعلى طريقة التّعبيرييّن الألمان لما بين الحربين أو على طريقة التّكعيبيين من القرن الماضي تصوغ سامية الزّغلامي عالما مليئا بالمتناقضات الشّكليّة والمتآلفات اللّونيّة وتحيك ثرثرة صامتة لوجود عدميّ الوجهة رغم تفاؤله الطّفيف. هي عذابات البحث عن هويّة ربّما أو عن موقع أو عن موقف أو لنقل عن عالم من الصّفاء الرّوحيّ الّذي يريده الفنّان لحافا لذاته المجرّحة بفعل الأزمنة المختلفة للتّجربة الحياتيّة والأنسجة المختلفة من العلاقات الإنسانيّة.

في هذا المعرض تطرح علينا سامية فرصة لملاقاة ذواتنا في تكوينات وتركيبات تلطّف من حدّة العنف وتهوّء الفضاء بنسمات الألوان وبزخارف ظريفة تأخذ من الأزهار والأغصان عمادها. وترحل بقارئ لوحاتها إلى مناطق الوعي المفتوح على الفظيع في الذّوات الإنسانيّة سواء على المستوى الجمعي أو المفرد. إنّه الإقتراح الذّكيّ والشّاق أن تدعونا الفنّانة إلى مراجعة العلاقة بين الأفراد وبين الجماعات سواء قبل الثّورة أو بعدها سواء في تونس أو في غيرها من البلدان.

هكذا تتبنّى سامية الزغلامي موقف الجرأة وتخطّ على لوحاتها هيئات أشخاص هلاميّة الوجه والصّفة والحضور أو تعبيريّة الملامح أو معوجّة الهيئة في فضاءات داخليّة مثل التّجمّع حول طاولة بالمقهى أو داخل غرفة، ثمّ تقدّم لنا مقترحا تعبيريّا يخالف ما تعوّدنا عليه من العروض التّشكيليّة المطبوعة بالحنكة في الإنجاز والدّراية بالتّصوير من طرف عديد المتكوّنين أكاديميّا. وبفطريّتها تقدّم عذابات إنسانيّة ليست لها بمفردها، حتّى وإن تبنتها وصارت عذابات سامية الزّغلامي. هي عذابات المشترك ولكن بحميميّة الفرد الّتي خلقت منها سامية الزغلامي إمكانيّة للتّواصل. في مقهى الجريدة لوحة ولوحات، لوحة يجتمع فيها الأشخاص حول طاولة وفي أيديهم جريدة الوقت وسكّر القهوة المرّة. في مقهى الجريدة ذاك يمكن أن يكون للفنّ موقع التّشارك والماركة بين الأفراد وفكرة أخرى للتّصور القائم على المقهى الثّقافي.

بقلم فاتح بن عامر
دكتور واستاذ جامعي

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115