مسرحية «الحديقة السرية» إخراج علي الماجري لنادي المسرح بسجن المرناقية: المسرح إلياذة الحب ووطن مصغّر يينع أملا

المسرح تعبيرة حرة ومتمردة، على الرّكح تكتب الأفكار ويعاد حياكة الأحلام وصناعتها، على الرّكح يمكن أن تشرق الشمس وسط العتمة

ويتحول السواد إلى بياض على الرّكح كل المعجزات تصبح ممكنة على الركح وكلمة مستحيل تمحى من القواميس الذهنيبة، فالمسرح وعاء للحياة، فرصة للولادة من جديد هكذا هي الحياة في عوالم «الحديقة السرية» إخراج علي الماجري.

المسرحية من إنتاج سجن المرناقية وهي عمل ناقد يعرى سخط المجتمع ويكشف بذاءة الإنسان، هي فرصة للوقوف أمام مرآة الذات ومساءلتها ومنها مساءلة المجتمع والدولة. جميع هذه المواضيع نقلت في عرض مسرحي التزم بكل خصوصيات العمل المسرحي المتكامل.

اتحدت تفاصيل السينوغرافيا لتحقيق الفرجة
صوت ارتطام جسم بشيء ما، ثم صوت يقول «الحرب بين الدول المتقدمة والنامية حرب بين الكفاءات والسرقات، فنحن في نظرهم وليمة شغف وجب سرقتها» ويضيف «قررت دولة متقدمة إعادة ثروات دولة نامية إلى دولة نامية أخرى، في شكل دواء جربته على مجموعة من البشر، فكيف ستكون النتيجة؟ هكذا يتساءل صوت المخرج، قبل ان تظهر أجساد بشرية تحمل شموعا، جميعهم يلبسون اللون الأسود، وللأسود رمزيته في المسرح فهو رمز للموت والفناء وللحياد أيضا، الشموع الملتهبة عنوان لثورة داخلية تعيشها الأجساد، ثورة سببها السؤال عن المكان الجديد، ففي المسرحية عمد المخرج إلى الترميز والشيفرات لخلق التشويق ومزيد من الفرجة والمتعة.

في الحديقة السرية تكون السينوغرافيا بكل مكوناتها عنوانا لقوة المسرحية، فالضوء باختلافاته من الأزرق الذي يرمز إلى الضياع والحيرة إلى الأحمر لون الدم فالأصفر رمز القلق والاضطراب جميعها تحاكي التحولات التي تعيشها النفس البشرية، الموسيقى تكتب انفعالات الشخصيات، فللهدوء موسيقاه وللحظات الشجن موسيقى مختلفة ولاسترجاع الذكريات نوتات أخرى، فالموسيقى في المسرحية باتت بمثابة الشخصية تشارك الممثلين انفعالاتهم وعنفوانهم.

في «الحديقة السرية» لا يمكن تناول المسرحية دون الإشارة إلى أداء الممثلين، الذين أتقنوا تقمص الشخصيات المتباينة وتقمصوا تفاصيلها، ممثلين عرفوا أن لعبة المسرح بمثابة الولادة من جديد فحاكوا تفاصيل الشخصية ولبسوها إلى حدّ التماهي مع الحقيقة ففي المسرح يمكن الاستغناء عن كل العناصر الفرجوية وحده الممثل لا يمكن الاستغناء عنه لذلك لعب المخرج على تفاصيل الشخصيات ودفع بالممثلين لتقمصها والتميز في تجسيدها أمام جمهور غفير جاء لاكتشافات إبداعات من يوجدون خلف القضبان.

جمعتهم الصدفة في مكان واحد، هم لا يعرفون سبب وجودهم في ذلك المكان، لم يسبق أن التقوا لكن الصدفة وحدها لعبت دورها، فخاضوا تجربة جديدة، هم في مكان دون عوالم مكان دون تفاصيل، حقنوا بحقنة لتجربة دواء جديد وعوض أن يصبحوا فئران ارتفعت داخلهم درجات الوعي والإنسانية.

«الحديقة السرية» عنوان المسرحية، اسم متكون من مترادفتين متناقضتين، الأولى الحديقة بما تعنيه من الانفتاح على العالم الخارجي مكان ربما يعلو فيه الضجيج وعدد البشر، والثاني صفة السرية وتحيل إلى الغموض وفي مكان غامض تتداخل الأحاسيس والمشاعر لبشر وجدوا أنفسهم في رتبة فئران التجارب.

على الرّكح تتداخل الحكايات والتفاصيل، الأجساد بالملابس السوداء تصبح أشخاصا لها روحها وأحلامها، تتغير الأدوار ولا يكتفون بالتشخيص ففي ذلك المكان غير المعلوم، كل شخصية تحكي قصتها وتجسدها أمام الآخرين، فمن حلم أن يصبح محاميا يلبس «روب المحاماة» ويدافع عن شخص ما، والآخر حلم منذ النعومة بالمسرح فتجده أمام يتقمص الأدوار ويعتلي الرّكح أمام لجنة علها تقبل أداءه للدور ليصبح ممثلا، وآخر عاشق وعشقه دفعه إلى القتل والعيش في الظلام وفي ركن قصيّ، اختلفت قصصهم وحكاياتهم وفي المسرحية داخل المسرحية حاولوا تسليط الضوء على دواخلهم، اخرجوا الظلام الذي سكنهم وبات ذلك المكان المظلم مشعا بنور الحلم والحب «حبوا يقتلوا فينا المحبة، ياخي زرعوها من جديد، سبيطاراتهم، ولات حديقتنا السرية».

«الحديقة السرية» تجربة مختلفة في مسرح السجون، عمل برؤية إخراجية متجددة، على الركح شخصيات لم يسبق لها أن التقت، لكن لكل منها ذنب تحمله أو خطيئة يعيش بها ومعها، جلبوا إلى مكان مجهول، حقنوا كفئران تجارب لمعرفة الدواء الجديد ومفعوله وعوض أن يشوههم الدواء أو ينزع عنهم تفاصيلهم ألبسهم حلة الإنسانية فالدواء الغريب أعطى النتيجة العكسية وعوض أن يتحول البشر إلى كلاب مسعورة، عاشوا تجربة جديدة هي تجربة الحب بمفهومه المطلق، حب الصديق لصديقه وحب الابن لوطنه.

في «الحديقة السرية» يتحول اللون الأسود إلى ابيض، يصبح الكابوس حلما جميلا، فنحن من نصنع قدرنا، وفي الحكاية حول أبطال المسرحية سجنهم إلى حديقة جميلة، زرعوا الورود في ثنايا القلب، نسوا الجرائم والأخطاء وقرروا أن يكون كل منهم إنسانا، أن يزرعوا الإنسانية داخلهم علها تزهر أملا وحبا وتلك رسالة المسرحية.
«الحديقة السرية» مسرحية ناقدة، عمل يزرع تفاصيل الحلم وبراعم الأمل في نفوس الشخصيات والنزلاء، مسرحية تنبض بالحب والانسانية التي تجسدت في عبرات الممثلين بعد انتهاء العرض، عمل متكامل توفرت فيه جميع عناصر الفرجة فنيا ومسرحيا.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115