مسرحية «ماتكفينيش» لمختار الفرجاني في قاعة عبد العزيز العقربي في المعهد العالي للفن المسرحي: الخشبة فضاء لولادة الحلم وكتابة الأفكار المتمردة

كيف يولد عمل مسرحي؟ ما الانفعالات النفسية والجسدية التي يعيشها الممثل قبل أن تولد الشخصية وقبل أن يعايشها و«يتخمر»

معها على الرّكح ليقنع المتفرج بأدائه، هل أن الممثل الكوميدي سعيد؟ وهل أن ضحكته حقيقية أم أن وجعه جعل منه يصنع عملا كوميديا؟ ما الوضعية الاجتماعية للممثل المسرحي في تونس؟ وهل يجب أن يكون الجميع مخرجين لهم نفس التوجه ليبدعوا أم أن الاختلاف والتجديد يصنعان مخرجا مختلفا؟ مع أسئلة أخرى طرحها مختار الفرجاني في مسرحية «ماتكفينيش».

«ماتكفينيش» مسرحية من اداء اوس بن ابراهيم ومروان الميساوي ومحمد كواس ومحمد فوزي البكوش ومختار الفرجاني وموسيقى واضاءة لصالح الظاهر هي عمل ظاهره كوميدي وباطنه نقدي ساخر يتساءل عن المسرح والمسرحيين.

على الركح يصبح الألم أملا
من العدم تولد الشخصية، من الألم يولد الممثل، من وجع اليومي يتشكل ويتكون ليقدم للجمهور أجود العروض، الممثل ذاك الكائن البشري الحيّ على الرّكح يصبح شخصية يحاكيها، يعيش تفاصيلها، ينتقل من الشخص إلى الشخصية فيصنع المستحيل ليتقمصها ويندمج في تفاصيلها ثم يعايشها بكل صدق إلى حدّ الوصول إلى تخيل انفعالاتها ثمّ يقدمها إلى الجمهور ويقدّم معها رسالة العمل ورسالة الشخصية.

وفي مسرحية «ماتكفينيش» تكون لكل ممثل شخصيته وأفكاره ولكلّ ممثل منهج تمثيلي مختلف، كلّ يمثل رؤية مغايرة، اجتمعوا على الخشبة في عمل واحد ليمتعوا الجمهور المحترم العدد بأداء ينتقل من الكوميدي الساخر إلى التراجيدي الموجع، وبين النقيضين يبدع الممثلون في الأداء والتقمص والخروج من عوالم الشخصية للحديث عن تفاصيل الشخص.

فالممثل كائن تاريخي ثابت يتأرجح  بين الشخص والشخصية. بمعنى أنه إنسان حقيقي عضويا ونفسيا فوق خشبة الركح، بيد أنه مطالب بأداء دور شخصية خيالية ما إيهاما، أو تقمصا، أو إبعادا. وهنا، يطرح في المسرح إشكال  الحقيقة والوهم، أو إشكال الصدق والكذب، وإشكالية الألم والامل، وعلى الركح ولساعة من الزمن ابدع اوس بن ابراهيم ومحمد كواس ومروان الميساوي في نقل تفاصيل الألم الذي يعيشه الممثل المسرحي في تونس، فنقدوا الجملة الأشهر «كي أنت ممثل، علاش مانراكش في التلفزة» وبسخرية موجعة تحدثوا عمن يحظون بفرص الظهور في البرامج الإعلامية ليقدموا «اللاشيء» ويسخروا من الجمهور مستعملين بعض «الكليشيهات» بينما نجد أن الممثل الحقيقي مهمل في شارع ما يعايش وجع الشخص والشخصية.

«ماتكفينيش» مسرحية حياتية داخل المسرحية المقدمة على الركح، تجريب بين الواقعي والخيالي فاحداث المسرحية المكتوبة تسلط الضوء على حياة الممثلين اثناء التحضيرات لتقديم عمل مسرحي، نص يعايش لحظات ولادة الشخصية وكيفية تقمصها والطرق الافضل التي يستعملها الممثل لاقناع المتفرج وشدّه الى ادائه، بين الضحكة والنقد تكتب الشخصيات والوضعيات المختلفة التي يعايشها جمهور مقبل على المتعة والسؤال.

في وطنهم المصغر «المعهد العالي للفن المسرحي» و أمام أترابهم وأصدقاء الحلم والوجع (طلبة المعهد) وعلى الخشبة التي قدموا دروسا في فنّ التمثيلي انتقلوا من العلمي والنظري الى التطبيقي، نقدوا كل المدارس الإخراجية قديمها وجديدها، على رقعتهم الجغرافية المقدسة (الركح) وتميز الممثلون واصطحبوا الجمهور في جولة نفسية إلى دواخل الذات البشرية عموما وما يعايشه الممثل أثناء تحضيراته لتقمص الشخصية بالأخص.

المسرح فضاء للحلم وليس للبهرج
«ماتكفينيش» هو اسم المسرحية، للاسم رمزيته فبالعربية «ماتكفينيش» كلمة من الدارجة التونسية ومعناها اريد شيئا اكبر، كان يقدم لك احدهم مقطعا من مسرحية فتجيب «ماتكفينيش نحب نتفرج في الخدمة الكل»، وكأنناّ بالدراماتورج والمخرج يرمز الى عدم الاكتفاء من فن المسرح، حواسهم لم تشبع بعد بالتمثيل، بالعشق، لازالوا يطلبون المزيد من المتعة الفنية ولازالوا يبحثون ويجربون اكثر في فضاء رحب وشاسع اسمه المسرح.

أما بالفرنسية m’attaque finish فهي دلالة على ان العمل كما الحياة ينتهي من حيث ابتدأ، وعلى الركح تنتهي المسرحية بنفس مشهد البداية مع شخصية اوس ابراهيم يناقش بائعا حول ثمن مجموعة من السجائر.

طاولة وحيدة خلفها كرسي وفوقها برتقالة وقوارير ماء بلاستيكية هي ديكور العرض، امّا السينوغرافيا فقد وقع الاعتماد فيها على «بروجوكتور» وحيد لإضاءة الرّكح واستعملت الهواتف الجوالة لصناعة سينوغرافيا العرض، فالمسرحية صالحة لكل الفضاءات، بعيدا عن بهرج الضوء والمؤثرات التقنية التي تتطلب إمكانيات ضخمة، بعيدا عن الموسيقى التي تأخذ حيزا كبيرا من العمل اختار مختار الفرجاني أن تكون أجساد الممثلين وحركاتهم وأدائهم سينوغرافيا العرض، فمن حركة الممثل صنعوا الفرجة، في كيفية أداء الشخصية والانتقال من شخصية إلى أخرى ثم العودة إلى الشخص فمحاولة للبناء من جديد وصناعة شخصيات أخرى ثم العودة إلى النص، هي رحلة الممثل وهو يخابر تفاصيل الشخصية منها صنعوا سينوغرافيا العرض، فالهاتف الجوال يمكن أن يصبح «فانوسا كبيرا ومضيئا»، قارورة الماء يمكن أن يسلط عليها الضوء فترمز إلى البحر وتجسد للحظات «الحرقة» و «الغرق»، تلك البرتقالة لها أن تكون إكسسوارا في العرض.

فالمسرح تجريب وتجديد، المسرح ليس ديكورا ضخما «موش تحط دار فوق الرّكح» وإضاءة قوية «20 كشاف على الركح»، المسرح فكرة والفكرة تحتاج إلى ممثل مبدع قادر على الخلق ومخرجا ذكيا يصنع عملا يمكن تقديمه في قاعة مجهزة بسقف تقني وكل متطلبات التقنية ويمكن تقديمه في قاعة بها «فانوس يتيم» وفي «ماتكفينيش» اجتمع ممثلون موهوبون ومخرج ذكي ليصنعوا عملا ناقدا وساخرا وممتعا.

أوس ابراهيم «رهيب» على المسرح


مبدع، من العدم يصنع الفرجة، له قدرة عجيبة على حملك الى عوالمه الداخلية يستشرف خبايا الشخصية ويتقمصها إلى حدّ الحقيقة، يتجول بين الكوميدي والتراجيدي، الممثل واستاذ المسرح اوس بن ابراهيم، الهادئ الصامت في الواقع على الركح يتحول ليصبح «رهيبا»، مبدعا ومقنعا، ممثل له كاريزما جد مختلفة وجاذبية على الخشبة حد ان تصبح كل شخصية «لحم ودم»، اوس بن ابراهيم الممثل الشاب والعاشق للفن المسرحي سبق وان حقق نجاح جماهيري في اول تجربة درامية له في مسلسل حياة خاصة وفاز بجائزة أفضل وجه جديد، كما تحصل على جائزة افضل ممثل عن دوره في مسرحية «ويحدث ان» في المهرجان الدولي للإبداع المسرحي بالمغرب، ممثل مختلف يصنع الفرجة ويدفعك لتعايش عوالم الشخصية وكل تفاصيلها يتقن أداءه ممثل شعاره أن كل الطرق تؤدي إلى الانتصار «حقا سننتصر لن يهدينا احد حقنا، سنفتك حلمنا من عيونك الى ان يحل المساء».

مختار الفرجاني مخرج باحث عن التجديد


ممثل متميز على الركح ومخرج مجدّد ودائم التجريب والبحث عن الجديد في المسرح، لا يؤمن بوحدانية الفكرة ولا بوجهة نظر موحدة، فنان متطوّر يبحث ولا يخاف التجريب في اعماله، مخرج مسرحي أو «مانحبش نقول على روحي مخرج بقدر ما انا استكشف هذا العالم» كما يقدم نفسه، فنان له نظرة مختلفة للمسرح وسؤاله الدائم هل ننجز عملا مسرحيا يمكن تقديمه في قاعات مجهزة باحدث الوسائل التقنية ام ننجز مسرحا ذا طابع انساني يمكن ان نلعبه في أي مكان والمهم هي الفكرة ومتعة المتفرج والاسئلة التي نعالج؟.

مختار الفرجاني يمثل جيلا من الشباب المبدع والباحث عن الاختلاف، جيل من المسرحيين المؤمنين بدور المسرح في التغيير وصناعة البديل، فنان اختار الالتزام ويكتب للإنسان بعيدا عن «الكليشيات»، فنان طور تجاربه من «تحت السطح» الى «فوشيك» فـ «اوفيليا»، ثمّ «اكون او لا اكون» إلى «ماتكفينيش» جميعها مباحث مسرحية تجريبية تبحث في المسرح وتقدم الجديد، تجارب تؤمن بالمسرح والإنسان رغم المعاناة والوجع الذي يعانيه المسرحي «ضحيت كثيرا لأجل الوصول للفكرة والطرح، لكن ما قدمه لي المسرح اعظم الاف المرات من كل مكسب مادي».

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115