عرض «ذئاب منفردة» لوليد الدغسني في مركز الفنون الركحية والدرامية بالكاف: جميعنا إنسان مشوّه يدّعي الكمال

نتشظّى، يمزقنا الواقع ويتعبنا، تتلاشى الاحلام ويعاد تركيبها، نذنب بحق انفسنا ونغفر لها، نعاتب ذواتنا ونجردها من كل فعل

مشين في المقابل نحثها على فعل كل امر موجع وقاس، ننحاز إلى أفكارنا وإلى مواقفنا صحيحة أو خاطئة إلى حدّ التطرف، تطرف فكري وذاتي يصنع منا جميعا «ذئابا منفردة» نراها ونعايشها كلما وقفنا لدقائق امام المرآة، وعلى الرّكح يعرينا الممثلون ويجردوننا من بشاعتنا وتطرفنا ويكشفون لنا عن ظلمنا لذواتنا في مسرحية ناقدة ولاذعة.

و«ذئاب منفردة» مسرحية دراماتورجيا وإخراج لوليد الدغسني واداء منجي الورفلي ومنير الخزري ومنير العماري ونور الدين الهمامي ووليد الخضراوي وشيراز العياري وسيف الدين الشارني ومساعدة اخراج اماني بلعج وملابس عبد السلام الجمل وشريط صوتي لـ»ميش» والممسرحية من انتاج مركز الفنون الركحية والدرامية بالكاف وبدعم من وزارة الشؤون الثقافية.

المسرح نقد موجع وسخرية قاتمة
«نحن أولئك الممثلون الذين دفع بهم إلى المسرح دون إعطائهم دوراً محدداً، دون مخطوطة في اليد، ودون ملقن لهم بما يفعلونه، ‏إنّ علينا وحدنا أن نختار كيف نعيش حياتنا» وعلى الخشبة تلك الرقعة الجغرافية المربعة والمحددة والتي عادة ما تكون فضاء لا متناهيا للتفكير فعلى الخشبة لا وجود للممنوع أو المحرم ولا مقدّس غير المسرح وجسد الممثل والذي يكون مطية المخرج ليقدم للجمهور أفكارا متشابكة ومتلاحمة ويعرفنا بذواتنا، فالخشبة تكون وعاء لأفكار عديدة تتقمصها الشخصية وتقدمها لتنقد الموجود وتحاول رسم المنشود من خلال طرح العديد من الأسئلة على غرار ما الذي يصنعه التطرف الفكري؟ لمَ يرغب الشباب في الهجرة وترك الوطن؟ لم لا يكون نواب الشعب صوت الشعب؟ ولمَ يتصارعون فقط حول مصالحهم الخاصة؟ كيف يمكن بناء مدينة منظمة وأفكار سكانها متناسقة؟ ما الذي يصنعه العنف والخوف؟ هل يصنعان شعبا عاملا وخانعا؟ أم يصنعان انسانا هجينا متناقضا يظهر الطاعة ويخفي التمرد والرغبة في التغيير؟ كل هذه الاسئلة تحمل وزرها الخشبة لتقدم في شكل ساخر حينا وموجعا احيانا وتترك للمتفرج صناعة حلمه الخاص اثناء الفرجة فالمسرح يعلمنا ان نحول حياتنا العادية الى حلم نضحك عليه قبل ان تغلق ستائره.

وعلى الخشبة طرحت مسرحية ذئاب منفردة كل هذه الاسئلة الموجعة والناقدة، على الرّكح نقدت التطرف والإرهاب والخوف وانتقدت أداء نواب الشعب واختلافاتهم من أجل المصلحة الشخصية، من خلال تقنيات سينماتوغرافية وعبر التشظّي والتفكيك وإعادة تجميع الحكاية نقدت ما يعيشه المواطن التونسي والعربي ونقدت الانسان في زرعه للفتنة والترهيب ودخلت الى التفاصيل التي نقلها الممثلون على الرّكح لينقدوا كل ما يعترضنا في حياتنا اليومية نقد لاذع وموجع ليكون العمل مثل الصفعة الموجعة التي يتلقاها كل من يحضر، صفعة تجعله ينفرد بذاته للحظات ويحاول استرجاع شريط حياته ليبحث عن مكامن الخطإ في حقّ ذاته وحق المجموعة.

المسرح صوت المهمشين والهامش
موسيقى هادئة، صوت لأنين شخص ما، الضوء يسلط وسط القاعة، شخصية تتحدث وتقول «عبث، عبث الى اين المسير، بلا رفيق ولا حبيب ولا صديق؟ انا المختلف الكاذب والمجرم والساكت الصامت هو المذنب القاتل، هو المختلف الذي نبذه المجتمع، هو الذي سكنه الخوف والفقر، كلمات موجعة نطق بها منير الخزري تعري المتفرج من افراطه في الانسانية وادعائه التسامح لتضعه في مواجهة قبحه اثناء الحديث عمن يميلون الى الإرهاب اليسوا منّا، الم يعيشوا بيننا ومعنا؟ الم نتشارك في الهواء والماء والوجع؟ السنا من اجبرهم على الانطواء والفردانية ونبذناهمّ حدّ أنهم وجدوا من يحتضنهم ويوفر لهم الأمن والشعور بالانتماء فأصبحوا ذئابا منفردة قاتلة عطشى الى الدم؟

تتغير الموسيقى، تصبح اكثر هدوءا، لعبة الضوء تكتب للمشهدية، انعكاس كأنه امواج البحر وشخصية لرجل يسمع موسيقى ايطالية، ترك خلفه الارض والأم والوطن وذهب هناك للبحث عن حلم أجمل عاند البحر وألمه عله يصل الى المستقبل، وبين وجع الحاضر وضبابية المستقبل تضطرب الشخصية، تتألم وتنقل المها في حوار ساخر مع الذّات، شخصية ابدع في تقمصها نور الدين الهمامي .

تتغير الألوان وتختلف النوتات الموسيقية، مشهدية اخرى بتقنيات صوتية مختلفة وشخوص جديدة وشخصيات متغيرة، فالمكان في المسرحية امكنة والحكاية حكايات و الفعل افعال والذئب ذئاب، يمر بها المتفرج جميعها، الزمان كذلك غير محدد فهو يتراوح بين الواقع القريب ليغوص في الذاكرة الى الماضي مع شخصية الجنرال (منجي الورفلي)، ذلك الدكتاتور الصارم الذي وضع قانونا قاسيا كل من يخالفه في مدينته يقتل، وصرامته خلقت متمردين من الداخل ليصبح المستقبل في لحظة استشراف مع مشهدية اخرى فيحرّك الديكور وتنعكس صور متقاطعة على الخلفية السوداء كأنها نقل لغليان وحالات احتقان واحتجاج تعيشه النفس البشرية، استشراف لما يؤول اليه الوضع كلما انتشر التطرف والوحدانية من خلال رقصة جماعية تجسد عملية فصل الرأس عن الجسد تماما كما تفعل داعش مع معارضيها، فالمسرحية هنا تنبه المتفرج وتدعوه إلى اليقظة فالذئاب المنفردة موجودة دائمة التربّص بالآخر المختلف.

على الرّكح تتجول الشخصيات بين أمكنة متعددة وفضاءات فكر مختلفة، تدخل الى تفاصيل الإنسان تنتقده وتضع خوفه وفرحه على الرّكح، تناقشه وتسخر من المجتمع القاسي، على الرّكح ينحاز الممثلون للهامش يكونون صوت المهمشين يضعون افكارهم وأحلامهم المؤجلة يشاكسونها فالمسرح انحياز للهامش والمهمشين.

المسرح تجريب وتجديد
المسرح فعل متجدّد ومتطور، ولا وجود لتعريف واحد للتجربة المسرحية التي يقدمها وليد الدغسني فهو يقبل على التجريب والتجديد في كل اعماله، لتكون «ذئاب منفردة» عملا جديدا يمكن تصنيفه في خانة مسرح ما بعد الدراما، فعلى الركح نشاهد مقاطع مبعثرة، قصص متشظية، افكار مختلفة، نفس الممثل يتقمص شخصيات عديدة، لا وجود لحكاية ذات مقدمة وجوهر ونهاية، مجموعة من المقاطع تقدم كانها مقاطع سينمائية يتم تجميعها وتكون وسائل السينوغرافيا مرادفا لعملية المونتاج في السينما، قصص ومشاهد يركبها المتفرج ويعيد كتابتها في ذهنه ليصبح العمل متكاملا.

فالمسرح ليس لعب الممثل، ولا النص المسرحي، ولا الإخراج، ولا الرقص، ولا نتيجة بسيطة لاجتماع هذه الإضافات التقنية. إن المسرح شكل وصورة العناصر التي تكونه: الحركة التي هي روح التمثيل؛ والكلمات التي هي جسد النص؛ الخطوط والألوان هي وجود الديكور نفسه، والإيقاع جوهر الرقص كما يقول كوردن كريك، كلّ هذه التفصيلات ابدع الممثلون في تجسيدها على الركح.

في «ذئاب منفردة» يتهمنا الدراماتورج وكاتب النص بأننا جميعنا ذئاب منفردة، جميعنا متطرفون، كلنا يسكننا هاجس القتل والدموية، يعري النفاق والسلام الاجتماعي الذي يدعيه الكثيرين، بطريقة مميزة تجمع بين التراجيديا والكوميديا، فالعمل مضحك تتوفر داخله معالم الفرجة ويوفر الضحكة للمجمهور وفي الوقت ذاته موجع ناقد لاذع، كل هذه المتناقضات يبدع في تقديمها ممثلون متميزون فهم تقمصوا الشخصيات المختلفة ولبسوا تفاصيلها، ممثلون استطاعوا تحويل وجهة النص وتاثيرات السينوغرافيا ليمتعوا المتفرج باداء ممنتع، فهم اتقنوا التفاصيل، ونقلوا علامات الوجع وتفاصيل الفرح بكل ذكاء.

على الركح وفي اطار بحثي تجريبي جديد تالق الممثلون استطاعوا سبر اغوار النفس البشرية ونقلوا كل متناقضاتها، استطاعوا الكشف عن المناطق المظلمة فيها، من خلال لغة الجسد تميز الممثل الكويغراف وليد الخضراوي في نقل أحاسيس الانسان الى الخارج عبر جسده وحركاته على الركح، ليكتشف عوالم الاختلاف النفسي فاخطر أخطر العوالم التي لم تكتشف حتى الآن هو الإنسان، الإنسان غابات كثيفة وغريبة، فيه عديد من الجُزر وهو أرخبيل معقد جداً، وبالتالي فالإنسان بذاته يختزل الإنسانية» كما يقول عبد الكريم برشيد المغربي.

على الركح جرّبوا، بحثوا، بنوا راكبوا وشتتوا، نقدوا، سخروا، اضحكوا المتفرج ودعوه إلى التفكير وطرح الاسئلة، نقدوا الواقع بكل متناقضاته، على الخشبة كشفوا الحقيقة واكتشفوا خبايا النفس البشرية، على الركح ولدت تجربة جديدة مختلفة وثرية وفي ساعة من الزمن اختزلت كل ما يعايشه التونسي ليكون المسرح فن النقد والاختزال بامتياز.

منير العماري.. تجربة متطورة


فنان مختلف، سيد الرّكح لحضوره كل الأبهة ممثل محترف ومجدّد في الشخصيات التي يقدمها، لكل شخصية انفعالاتها واختلافاتها، لكل شخصية ادواتها ومؤثراتها، ممثل متطور كلما شاهدته حدثت الصدمة والانبهار من ادائه المبهر وعنفوانه الذي يتراجع، الممثل منير العماري تجربة مسرحية متميزة في كل الاعمال التي شارك فيها أحلام المخرج وليد الدغسني، تتطور التجربة ومعها الأداء، هو الطفل العاشق للمسرح الذي لم يمنعه «الوجع» من الصعود على الخشبة واللعب كطفل صغير.

نور الدين الهمامي.. يحوّل الوجع ضحكة


ممثل صارم، له كتابات جد قاسية لاذعة وناقدة، ممثل متعدد المواهب له قدرة عجيبة على المرور من التراجيدي الى الكوميدي فيبكي المشاهد ويضحكه في الوقت ذاته، كاتب بامتياز وممثل موهوب له القدرة على تقمص الشخصية وتفكيك تفاصيلها، المبدع نور الدين الهمامي تألق في الذئاب المنفردة وكتب اسطرا في قصة نجاحه في عالم الفن الرابع ذاك الذي كتب فيه التراجيدي والكوميدي.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115