عرض مسرحية «بينوكيو وبينوكيا» لنادر بلعيد ضمن المهرجان الوطني للمسرح التونسي: المسرح خلق للحياة من العدم

المسرح إعادة خلق للحقائق، إعادة تركيب للأفكار والحكايا وجمعها في فضاء واحد ولعبة قدر واحدة، وحده المسرح يستطيع تفكيك قصة

ليعيد صياغتها بطريقة أجمل وبصور فرجوية ممتعة ورسائل تعليمية متقنة، وحده أب الفنون يحملك إلى عوالم الخيال فتقابل شخوصك المفضلة تحادثهم وتسمع موسيقاهم ثمّ تعود إلى الواقع مشحونا بطاقة من الحب والإقبال على الحياة فالمسرح يزرع في المتفرج الصغير حبّ الحياة والتشوق لاكتشاف خباياها.

المسرح يحمل الطفل إلى عوالم الخيال وفي بينكيو وبينوكيا للمخرج نادر بلعيد يرحل الطفل بكل أحاسيسه إلى عالم غريب تجتمع فيه الحقيقة بالأسطورة لتحدث الرحلة الممتعة، مسرحية قدمت في مسرح الجهات ضمن فعاليات المهرجان الوطني للمسرح التونسي في نص وإخراج لنادر بلعيد وسينوغرافيا لوليد البريني وتمثيل كلّ من شهاب شبيل ورامي الشارني ورضا حمودي ومحمد علي الدريدي ومحمد فوزي البكوش وبلقاسم عزديني ومريم بن حسن وإشراف التيمومي وانس الهمامي.

بالسينوغرافيا تجمع الحقيقة بالخرافة
موسيقى قوية، فانوس مستدير الشكل يتوسط المكان، الإنارة خفيفة كأنها تريد ان تنقل للمتفرج فقط إلى وسط الرّكح لمزيد الانتباه، صوت يقول «احذروا فايروسات»، شيخ يجلس أمام عقاقيره يبحث عن ترياق لفايروس انتشر في الخارج، وفجأة تتغير المشهدية، يدخل إلى الركح مجموعة من الشخوص وجوههم اما بالاقنعة او بماكياج شخصية الجوكر (الشخصية ذات الملامح الغائبة )يتقدمهم سيدهم «الساحر» بماسك احمر وللأحمر رمزية الخوف والعالم الآخر، مع الخطاب يفهم المتفرج انّ الشيخ الاشيب الشعر هو العالم الشهير انشتاين وهو منعزل في مخبره منذ عشرة اعوام للبحث عن دواء لشفاء الناس من الوباء المنتشر في الخارج انشتاين العالم يشعر بالوحدة فيجيئه الساحر بقطعة خشب يطلب منه صناعة دمية يسميها بينوكيو لتؤنس وحدته.

فالمسرح هنا جمع ما لا يجمع، وحّد الخيال مع الحقيقة ووضع شخصيتين في مكان واحد الأولى حقيقية لعالم اثّر ايجابا ببحوثه ودراساته في كل العالم والثانية دمية خشبية صنعها نجّار ما في احدى الحكايات الخيالية، وعلى الركح يجمع كاتب النص الشخص والشخصية في فضاء درامي واحد لتوفير المزيد من المتعة والتشويق للمتفرج الصغير.

يصنع انشتاين الدمية الخشبية، ينفث فيها الساحر من روحه لتصبح ناطقة، ويعلمها انشتاين كلّ علمه ومعرفته، الامر يبدو غريبا وعجائبيا فكيف لدمية ان تتكلّم؟ وكيف لانشتاين العالم ان يقتنع بصنع الدمية ومحادثتها وتعليمها؟ هل يجتمع العلم بالخرافة والاسطورة؟ في الواقع لا، لكن على المسرح نعم، فتلك الخشبة قادرة على استيعاب كل الافكار والرؤى والمتناقضات فالمسرح وعاء للابداع وليس للابداع حدود.

«بينوكيو وبينوكيا» مسرحية ميزتها حضور قوي للسينوغرافيا وتاثير بارز على العمل، فالكوستيم صنع بدقة مع تركيز على التفاصيل التي تؤثر على الطفل المتقبّل، لعبة الضوء كانت رديفا لتصاعد الأحداث فالضوء اصفر وقت الهدوء ليصبح ازرقا وقت الحوار الهادئ ويتحوّل الى اللون الاحمر متى حدثت مشكلة وتصاعد نسق الاحداث.

بالاضافة الى الضوء كانت الموسيقى مميزة متناسقة مع الاحداث، وبين المشاهد تتحول الموسيقى الهادئة الى نوتات راقصة ليتفاعل معها الطفل حتى لا يضجر أثناء الفرجة خاصة وانّ قدرة تركيز الطفل 15دقيقية بعدها يشعر بالضجر إذا كان النسق بطيئا ومخرج العمل كان ذكيا حين وظّف الإيقاع المتسارع ليتفاعل الطفل بالتصفيق قبل ان تعود الاحداث الى هدوئها، الموسيقى كانت الخيط الرابط بين الاحداث فالموسيقى شخصية من شخصيات المسرحية هي التي مهدت للرحلة التي سيخوضها بينوكيو وبينوكيا في بحثهما عن القطعة الخشبية النادرة والموسيقى هي عنوان الانتصار والحياة في العمل.

في السينوغرافيا أيضا توظيف للوسائل التكنولوجية الحديثة خاصة المابينغ من خلال وضع شاشات كبيرة تتوزع على كامل الركح تنعكس عليها مجموعة من الصور والجزئيات حسب الأحداث وتسلسلها، لتكون السينوغرافيا الحديثة وسيلة المبدعين نادر بلعيد ووليد البريني لتقديم مسرحية للاطفال تواكب الحداثة وتوفر الفرجة البصرية والمشهدية المتطورة والممتعة التي تقنع المتفرج الصغير.

مسرح الطفل تعيلم وتثقيف عبر الفرجة
مسرح الطفل التزام فالمتفرج الصغير تبنى شخصيته وتتشكل من خلال الصور والمشاهد التي يراها امامه وممارسو مسرح الطفل تكون مسؤوليتهم اكبر تجاه المتقبّل، وفي «بينوكيو وبينوكيا» يحترم المخرج وكامل الفريق عقل الطفل ويحملونه الى عالم عجيب وخرافي ويقدمون له مجموعة من الرسائل التعليمية عبر الفرجة.

في بينوكيو وبينوكيا تجتمع كل المتناقضات، لنقد الشرّ داخل البشر، بالمسرح يدعون الطفل الصغير الى التضحية والعلم والمعرفة فدونهما يصبح الانسان مثل الخشبة ولولا المعرفة لما تميزت شخصية بينوكيو عن غيره من الشخصيات في الحكايات القديمة.

في المسرحية وفي ذلك المخبر يواصل انشتيان تعليم بينوكيو إلى حدّ ان يصطدم الصغير بحقيقة انه من خشب وليس انسانا، حينها يحزن، وتتصاعد الاحداث وتتوتر ويظهر الساحر مرة اخرى ويطلب منه صناعة دمية لبينوكيو يسميها بينوكيا، وبعد صناعة الدمية تصبح الاحداث اكثر تشويقا واكثر إضحاكا فالكوميديا جزء من رسالة مسرحية ملتزمة يقدمها نادر بلعيد وفريق المسرحية.

بينوكيا ميالة الى السؤال والبحث المتواصل سألت عن سر الفانوس المعلق في أعلى المخبر فطلب منها عدم لمسه، يغلبها حبّ الاطلاع فتلمسه وتحطمه حينها يتنجمّد صانعها ويطلب منهما الساحر الوصول الى عالم الصدى للحصول على قطعة خشبية نادرة لانقاذ صانعهما وانقاذ الانسان، وتبدأ الرحلة المشوقة للمرور بسيدة الرياح ثم النار ثم الماء وفي كل مرحلة تكون الاجابة عن سؤال هي وسيلة العبور، هنا السؤال موجه الى الطفل المتقبل ومن خلاله تقديم معلومات تفيده في دراسته عن مكونات الماء ومكونات النار.

وعند الوصول إلى سيد الخشب يعرف بينوكيو وبينوكيا ان على احدهما ان يحترق ليصبح رماده ترياقا للبشرية، يختار بينوكيو التضحية لانقاذ صانعه وهنا تقدم مجموعة من الرسائل التربوية والقيمية للطفل اهمّها التضحية من أجل الاخرين والتضحية من أجل الوطن والايمان بدور الفرد كشخص فاعل في المجتمع وان كان ضعيفا صغيرا.

بينوكيو وبينوكيا مسرحية موجهة للاطفال تسائل عن الحرب والسلم، عن الخوف والحب عن الحياة والموت، اسئلة فلسفية ووجودية تنقل الى المتفرج الصغير بشخصيات بسيطة يعرفها ويحبها ووسائل فرجة ممتعة، هي عمل فلسفي يتساءل عن ماهية الانسان، عمل موجه للكبار والصغار توفرت داخله كل مقومات الفرجة ليكون عملا ناجحا ومميزا يقنع المتفرج الصغير ويشبع نهم السؤال عن الكبار.

رامي الشارني:ابدع في بينوكيا
ممثل مختلف لحضوره كل البهاء على الركح، ممثل مميز صنع الفارق في مسرحية «بينوكيو وبينوكيا»، الممثل رامي الشارني أتقن جيدا شخصية بينوكيا الانثوية، أتقن تفاصيلها في المشي في نبرة الصوت والحركة على الركح، ممثل تقمّص الشخصية إلى حدّ التماهى وفهم كل تفاصيلها بكل متناقضاتها، بينوكيا الجميلة الشخصية التي تضحك المشاهد وفي الوقت ذاته تشده لذكائها وطريقتها المختلفة في الاداء واللعب على الركح، رامي الشارني ممثل صنع الاختلاف في المسرحية وكان مميزا احبه المتلقي وتفاعل ايجابيا مع ادائه.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115