المهرجان الوطني للمسرح التونسي: مسرح الجهات - عرض مسرحية «ترفاس» لحافظ زليط لنا الصحراء لنكتب إلياذة العشق فيها

الصحراء أنثى والخشبة أنثى، الصحراء امتداد وأسرار لا يعرف كنهها إلا من سكنها وعشقها، الصحراء سرّ جميل

كثبانها تخفي الكثير من الحكايا، وبالمسرح يغوص حافظ زليط في عوالم الصحراء، يحادثها ويعشق تفاصيلها ليقدمها إلى الجمهور، الصحراء حكاية غريبة ورواية عجيبة، الصحراء مولد للحب وللحياة هكذا هي صحراء حافظ زليط .

الصحراء وتفاصيلها الممتعة التقاها جمهور المهرجان الوطني للمسرح التونسي في مسرح الجهات بمدينة الثقافة في عمل مسرحي كوريغرافي «التـرفـاس» كوريغرافيا وإخرج حافظ زليط، عن نصّ مقتبس من مدونة إبراهيم الكوني وصياغة اللهجة المحلية ومراجعتها لمـحمد الحاجي و عمر الجمل وتمثيل نجوى ميلاد ومراد بالناصر ورانية الجديدي والجوقة الراقصة كل من بلال شويحي واشرف بلحاج مبارك واحمد الرزقي وسينوغرافيا واضاءة لطه الجابر وتركيب الموسيقى لوسام سيف النصر والاكسسوارات والاقنعة حبيب الغرابي وملابس زينة بن شعبان وماكياج محمد التومي، هي عمل امتزج فيه الجمال والحياة والولادة والموت والوجود والفناء جميعها نقلتها اسرار الصحراء

السينوغرافيا مطية للإبداع
زيّن الركح بالأصفر، هو لون رمال الصحراء ولون الجفاف فيها، أقصى الركح تجسيد لعروق النباتات الصحراوية متمسكة بالحياة، من الأعلى تتدلى رؤوس متشابهة في شكل دائري هي مجسم لراس ثمرة «الترفاس» فمن الديكور البسيط والضوء الأصفر ينقل حافظ زليط جمهوره إلى الصحراء وأسرارها وعوالمها الشاسعة وحكاياها اللامتناهية.

إلى الصحراء تكون الرحلة، صحراء الحب والأمل، الصحراء أرض البداية واللانهاية، الخفاش يتدلى اقصى الركح، الكوريغراف اشرف مباركي أبدع في تقمص شخصية الخفاش حدّ التماهي مع كل حركاتها اذ يبدو انه درس الشخصية جيدا قبل تقمصها.

السينوغرافيا بما هي فنّ تاثيث الركح، كانت مطية طه جابر للدخول الى عوالم الصحراء، انطلاقا من الضوء الذي اختلف حسب الحكاية فهو اصفر وقت حديث الجماعة عن الصحراء عن امتدادها، ليصبح احمرا لحظة دخول الام الثكلى ونحيبها على ولدها ويعود إلى الزرقة المنتشرة كامل الرّكح حين يتحدثون عن المطر ومياهه العذبة والسماء الشاسعة كما الصحراء.

الماكياج جزء أساسي في العملية الإبداعية في المسرحية الكوريغرافية الترفاس، الماكياج يحمل المشاهد إلى عوالم الشخصية، دقة في وضع الماكياج اشرف عليها المبدع محمد التونسي فالغزال بقرنيه ولباس يشبه جلد الغزال، «النعوشة» باظافرها المطوّلة وهالات سوداء حول العين، العرافة ترسم تفاصيل الشرّ على وجهها، أما الشيخ فبياض على وجهه رمزية للزهد والصفاء فالماكياج في الترفاس مقوم اساسي في الفرجة والمشهدية ، تركيز على التفاصيل التي تؤثر على نفسية المتقبل ابدع في تصميمها ورسمها محمد التومي.

فالسينوغرافيا بما هي فن تشكيل المكان المسرحي، أو الحيز الذي يضم الكتلة، والضوء واللون، والفراغ، والحركة كانت وسيلة حافظ زليط ليحمل الجمهور الى عوالم معشوقته الأزلية الصحراء.

الصحراء امّ ووطن
موسيقى الناي ترحل بك بعيدا جدا، الى الهناك تكون السفرة، وسط الرمال المترامية والكثبان المتشابكة، الموسيقى تصنعها الطبيعة تتماهى مع تهدجات النفس التواقة الى الحياة ولان المسرح نقل لتفاصيل الحياة نقل حافظ زليط على الركح تفاصيل الصحراء عبر النص الممتع المقتتس من مدوّنة ابراهيم الكوني وحركات الممثلين والمؤثرات الصوتية واللونية، إلى الصحراء الأم والوطن تكون الوجهة.

فتجدك امام خمس شخصيات باختلاف هيئاتها وملابسها وماكياجها، تعلن عن بداية العرض من خلال نشيد الصحراء فتتحدث عن الجفاف وعن اهمية الماء وعطش الأرض ويناشدون السماء لتمطر، فتمطر السماء وتحبُل الأرض وتولد النبتة السرية والسحرية كنز الصحراء ونشيدها الشاعري «الترفاس» تلك النبتة البرية آمها الأرض ووالدها السماء مكوّرة هي سرّ من أسرار الصحراء كما يقول الشيخ، لتتغير الموسيقى وتصبح أكثر قوة وترقص حبات الترفاس على الرّكح وبين الجماهير وبالماكياج رسم أدق تفاصيل الترفاسة الراقصة.

فـ«الترفاس» هو نشيد شاعري، جميل بقدر ما هو حزين، عن مسيرة الحياة،.حياة البشر كما حياة كائنات الطبيعة الصحراوية الأخرى، بين الولادة و الموت، الوجود و العدم تكون حياة الترفاس.

وفي المسرحية ومع حكمة الشيخ وشعوذات العرافة نكتشف انّ فالترفاس كنز، و اكتشاف الكنز مشروط بوجود الطلسم، مفتاح السّر و الإشارة، و لا يولد السّر إلاّ بالنداء، و همس المجهول، حينها تتمدّد البذرة في العدم، تنمو، تستدير في رحم الأرض فيظلّ الكنز مخفيّا في الجوف يخنقه القبر، يكتم أنفاسه التراب القاسي فيملأ جسمه المتنامي بالهواء، يتكتّل ، يتململ فيفلق الحجاب و يمزّق اللّثام فيكون الكشف والولادة و من بعده الفناء فالترفاسة تتفتّت وتعود إلى رحم الأرض كما يعود المخلق إلى خالقه.

الصحراء وطن مصغّر بالإضافة إلى سرها الاكبر «الترفاس» هناك العديد من الحيوانات التي تسكنها على غرار الفنك الذي نشاهده يرقص على الركح، يحاول الشيخ ترويضه وملاعبته فيستكين ويهرب من أمام العرافة وكانّ بالمخرج يرمز إلى انّ الصحراء فضاء المعرفة لا التدجيل والعرافة، في الصحراء الغزال وعلى الركح نجد غزالا يتيما وكان المخرج يريد ان يؤكد على الخطر الذي يواجهه غزال الصحراء بسبب الصيد العشوائي فالصحراء ذلك الوطن يحمل داخله احاديث وحكايا البشر والنبات والحيوان.

المسرح استنطاق لاسرار الصحراء
ساعة وربع من الفرجة، ساعة وربع من متعة الكلمات وحركات الاجساد التواقة الى الحرية فالمسرحية تعتمد في جزء كبير على الكوريغرافيا وتترك لاجساد الراقصين الحرية لينقلوا تفاصيل الصحراء الى الجمهور.

على الركح يحاكي زليط عوالم الصحراء،، يتتبّع العرافة وينقل تفاصيل لباسها الموشى بكل الالوان، ينصت الى همهماتها كلما جاء الليل، يسمع نداءها للسماء علّها تمنّ على ابنتها الصحراء بالقليل من الماء لتحيي النبات والحيوان.بالموسيقى يتتبع تهدجات الشيخ وهو يسبح في ملكوت الصحراء يقرأ من كتبها وينهل من معارفها.

وفي الترفاس جولة في عوالم الصحراء كشف للبعض من معتقداتها على غرار مشهد «النعوشة» او «ام الذراري» الشخضية التي اتقنت تجسيدها الممثلة نجوى ميلاد وهي من ميثيولوجيا الصحراء عن امرأة قتلت ولدها فمسخت في شكل طائر يتتبع رائحة الصبيان وكلما وجد ذكر وحيدا قتلته، النعوشة جزء من الخيال الشعبي عند سكان الصحراء وظفه المخرج في العمل.

الترفاس عمل مسرحي كوريغرافي يتتبع نبض الصحراء ويعايش تفاصيلها، على الركح نقلوا حكاياها وجزءا من أسرارها ونقدوا واقعها، فالصحراء تعاني اليوم بعد ان هجرها اهلها، الصحراء ثكلى بسبب الاصطياد العشوائي لحيواناتها وانتهاك حرمة ثروت ها الطبيعية، نباتات الصحراء باتت تخاف الولادة بعد ان دهست رمالها تحت عجلات سيارات «الكناترية» حتى «الترفاسة» باتت تتمنى مرور صحراوي ليقطفها قبل ان تعود الى رحم الارض، فالصحراء موطن الحب باتت تخيف عاشقيها...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115