مسرحية « القلص» لأمير العيوني في فضاء التيارو: المسرح سؤال وتجريب ومقاومة مستمرة

المسرح فكرة والافكار لا تموت، المسرح فعل تجريب مستمر ومحاولة دائمة للتجديد وطرح الاسئلة، المسرح تجديد وبحث دائم في البديل والافكار،

المسرح فعل انساني مميز لانه يهدف الى البناء والخلق هكذا هو الفعل المسرحي كما يراه المخرج امير العيوني الذي قدم للجمهور عمله الجديد «القلص» في فضاء التياترو.

و«القلص» مقتبسة عن نص «هذيان ثنائي» لاوجين يونسكو سينوغرافيا واخراج لامير العيوني واداء فاتن خميري ورمزي بن ريانة وامير العيوني و توظيب ركح وانارة لمحمد صالح المداني وتوظيب عام أميرة قسيم وتنفيذ الملابس لجليلة المداني وماكياج لريحانة عباس وفوتوغرافيا لمحمد قلنزة وهي تجربة جديدة ورؤية سينوغرافية مختلفة ترسخ مفهوم «المخرج-السينوغراف».

من العبث تساءل عن الانسان
ظلام يحيط بالجميع فقط بقعة ضوء واضحة تسلّط على شخصية بلباسها الكاكي في أقصى الركح، ملامح الوجه غائبة كانّ بالمخرج يرمز الى انعكاس الشخصية على كل الحضور فهي جزء من الكلّ، الشخصية تضع موسيقى هادئة ترتفع تدريجيا حتى تجدك وسط اصوات فرقعات القنابل والرصاص وموسيقى الحرب المميزة التي رافقتها رقصات الضوء لكتابة ملحمة حربية تحمل المتفرج الى زمن القصة أو مكان الحدث، قبل أن تخفت النغمات تدريجيا لتجدك امام شخصيتين في خزانة الملابس ، هما اثنان رجل وامرأة شخصيتان دون اسم او ميزة او هوية، هما الماضي والحاضر هما الانا والانت وكلّ من وجد نفسه في حكاية «هذيان ثنائي» لأوجين يونسكو التي اقتبس منها المخرج مسرحيته.

عنوان المسرحية «القلص» هي كلمة مكونة من مرادفة وحيدة وهي من الدارجة التونسية يرادفها «الخزانة» في الفصحى، تلك الخزانة كانت فضاء الاحداث طيلة الحكاية، الخزانة اصبحت شخصية في العمل هي جزء من العملية الابداعية تتغير حسب متطلبات القصة واللعب الدرامي فهي مرة خزانة ومرة اخرى سريرا وتتحول الى شباك لمشاهدة الفضاء الخارجي هي ايضا حلبة للصراع بين الشخصيتين كما انها ترمز الى الحدود المكانية التي يجب أن تتحرك فيها الشخصيات على الركح وكانّ الخزانة ركح مصغر داخل الركح الاكبر.

صوت الرصاص يصم الاذان، صوت الحرب يقترب كانه يحيط بالقاعة ليحمل العمل المتفرج الى عوالم يونسكو، الى حرب اهلية عاشها الكاتب وحول وجعها الى ابداعات مسرحية خالدة مثل «المغنية الصلعاء» و«الكراسي» و«هذيان ثنائي» التي اقبس منها امير العيوني مسرحيته الأخيرة، الموسيقى الحربية ولعبة الاضواء كانها نقل للحظات الخوف التي يعيشها الانسان في فترة الحرب وللحضور توقّع ان يتناول الحوار مواضيع الحرب والسياسة لتكون الصدمة الاولى مع جملة «الفكرون والحلزون كيف كيف» وهذه الجملة هي التي ستنبني عليها احداث الحكاية فالمخرج في اعادة كتابة النص جعل من حديث الواقع والافكار البسيطة التي نعيشها يوميا موضوعا للعمل، في اطار مسرح العبث او اللامعقول الذي يعمل عليه امير العيوني.

في المسرحية الاحداث تدور بين الشخصيتين الرجل والمرأة وصراع عن «الحلزون والفكرون» وسط لعلعات الرصاص وصرخات الموت التي يصلهما صداها وكأننا بالشخصيات تعودت على رائحة الحرب وباتت ألحان الحرب نوتات تمتعها، في العمل سخرية من مصلح الحرب في مسرح يصفه رواده بالعبث واللامعقول مسرح يقول عنه باتريس بافيس « العبث هو العبث «كل ما نحس بأنه غير معقول Déraisonnable, وكأنه لا يملك أي معنى تماما أو أي علاقة منطقية مع بقية النص أو الرّكح، والعبث في الفلسفة الوجودية هو ما لا يمكن تفسيره بالعقل، وما يرفض من الإنسان كل تبرير فلسفي أو سياسي وفي المسرح نتحدث عن بعض العناصر العبثية عندما لا نستطيع الوصول إلى إعادة وضعها في سياقها الدراماتورجي والركحي والإيديولوجي».

وعلى الركح وطيلة ساعة تجدك امام شخصيتين تتحاوران بكلمات قليلة تستحضران ذكريات الطفولة، تتحدثان هراءا دون تقديم جمل ذات بعد فكري لكن السطحية التي يتحدثان بها تصنع فلسفة خاصة بحياة شخصيات تعايش الحرب وتتأقلم مع وجعها، جمل قليلة تحاكي الانسان وتنقل بساطته وبساطة قصصه وتصنع منها عملا مسرحيا يجمع السخرية واللامعقول والجد في فضاء محمدود.

مسرح دون نص والحركة تصبح صوتا
فضاء العمل هو الخزانة، شخصيتين اثنتين، رجل وامرأة الموسيقى تكون الشخصية الثالثة فالموسيقى هي المتحكم في انفعالات الشخصيات هي التي توجه الحركة الموسيقى التي تتحكم فيها شخصية ثالثة دون ملامح، لعدة دقائق تتحرك الاجساد بكل بطء كأنها تدعو المتفرج إلى عوالمها، الماكياج يغير قليلا من سمات الشخصية، الضوء يكون رديفا للشخصيات ولحركتها حدّ انه يصبح في جزء من العمل شخصية لها تاثيرها وحضورها.

«القلص» مغامرة جديدة لامير العيوني، عمل اقتبس من نص لاوجين يندرج في خانة مسرح العبث او اللامعقول ومن سمات المغامرة غياب النص في المسرحية، فقط جمل معدودات تنطق بها الشخصيتان، جمل متناثرة منطوقة اما بقية العمل فيكون فيه الجسد صاحب اللغة فأجساد الممثلين تكون حمّالة الفكرة ووعاء المبنى والمعنى ليقدموا عملهم معتمدين على لغة الجسد والرقص المسرحي فالاجساد بحركاتها تصنع صوتا وموسيقى تثير اسئلة عن اللغة عن المنطوق وعن الجسد.

مغامرة جريئة يخوضها العيوني يكون فيها جسد الممثل حاملا لفكرة العمل، التركيز أكثر على الجسد وحركاته ومحاولة شد انتباه المتفرج وجلب الجمهور الى فكرة المسرحية ومعايشة وقعها من خلال الجسد ولغته الصامتة والناطقة بآلاف المعاني وبأقل كلمات، فالجسد يخبر المتفرج عن وجيعة الشخصيتين العاجزتين عن الخروج بسبب الحرب، الجسد ينقل تفاصيل الانفصال والوصال والرهبة والبهجة والخوف والفرح والترح التي يعيشها الانسان، مشاعر يكون الجسد اصدق في نقلها من الكلمات احيانا.

في «القلص» يكون الجسد في رقصه وحركاته مطية للدخول الى عوالم اوجين، كتابة مسرحية اخرى ومقاربة مختلفة لنصوص اوجين يخوضها أمير العيوني تجربة يقول عنها «هكذا انا دائم البحث والسؤال والتجريب، ابحث عن التجديد واخوض المغامرة في كل عمل جديد وفي «القلص» انطلقت من تصور ليونسكو وقمت بمقاربة ترتكز اساسا على الحركة والرقص المسرحي والايماءة اي نصّ اخر ، نص حركة عوض نص منطوق « ليكون العمل تجربة تقل فيها الكلمات لتزداد حركات الجسد وتصنع نصا مختلفا.

المخرج –السينوغراف: رؤية فنية متجددة للمسرح
السينوغرافيا جزء اساسي في العملية الابداعية المسرحية، فالسينوغرافيا هي مجموع العناصر المكونة للفعل المسرحي وهي اعادة تشكيل للفضاء المسرحي
وتعبير السينوغرافيا في المسرح فهي «الخط البياني للمنظر المسرحي حرفيا «sceno graphy»، أما تعبيرا «فهي فلسفة علم المنظرية الذى يبحث فى ماهية كل ما هو على خشبة المسرح، وما يرافق فن التمثيل المسرحى من متطلبات ومساعدات تعمل فى النهاية على إبراز العرض المسرحى جميلا ، كاملا ، متناسقا ومبهرا أمام الجماهير هكذا تعرّف السينوغرافيا هذا العلم الذي يعمل عليه امير العيوني ويحاول التميز وصناعة الاختلاف في كل اعماله.

السينوغرافيا في مسرحية «القلص» جزء اساسي من الفعل الدرامي فحركات الاجساد تصنع ايقاعا مميزا وصوتا مختلفا يكون بديلا للمنطوق، والموسيقى هي محرك الاحداث والمسؤولة عن انفعالات الشخصيات كذلك الضوء يتحول الى شخصية تتعامل معها بقية الشخصيات وتتفاعل معها فالسينوغرافيا ليست مجرد الزينة بل هي روح العرض كما يقول العيوني.

في «القلص» تكون السينوغرافيا من مقومات قوة العمل ويجدك المتفرج نفسه امام مصطلح «المخرج-السينوغراف» اي تماهي وظيفة فنانين وتلاقحهما في شخص واحد، المخرج السينوغراف مفهوم جديد في الفعل المسرحي اساسه تمازج رؤيتين فنيتين مختلفتين رؤية المخرج ورؤية السينوغراف وتماهيهما في تشكيل العرض المسرحي و يصبح المسرح بهذا المعنى مسرحاً عضوياً في الرؤية المسرحية الدرامية والسينوغرافية التشكيلية على مستوى المعالجة الدرامية التي تتشكل وفقاً لتوحد الشخصين معاً. ومن هنا يحدث ايضاً تخل واضح عن رؤية المؤلف، والتزام العرض المسرحي برؤية اخراجية تستند في مدلولها على “الرؤية السينوغرافية” لتخلق نصاً مسرحياً جديداً» كما كتب الناقد المسرحي محمد نصار .

والمخرج السينوغراف مفهوم فني يعمل عليه امير العيوني في صياغته الجمالية لعروضه المسرحية «منذ البرايف نعمل على الضوء والموسيقى وايقاع الحركة» فالسينوغرافيا لا تاتي في مرحلة ثانية من اعداد العمل بل هي جزء اساسي منذ البداية تكون واضحة المعالم في ذهن المخرج، والمخرج السينوغراف كمفهوم جمالي اعمل عليه منذ اعوام في اطار البحوث والمسرحيات ولا يمكن ان ننجز مسرحا لا يتفاعل فيه الممثل مع الضوء والصوت والماكياج كما يقول مخرج العمل الذي يسعى إلى أن يحقق معادلة المخرج-السينوغراف ويجمع بين رؤيتين فنيتين لدى فنان واحد.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115