نيـران الحــبّ والحرب

بقلم: محمد عبد الكافي
صدرت في هذه السنة طبعة ثانية من رواية الكاتب عبد الواحد براهم «حبّ الزمن المجنون»،

نشرتها دار الجنوب ضمن سلسلة «عيون المعاصرة» مع مقدّمة دسمة بعنوان « دلالة الزمان والمكان في حبّ الزمن المجنون» للناقد الأستاذ محمد آيت ميهوب، وبغلاف تحلّيه فتاة أنيقة من رسم الفنانة كوثر الجلاّزي. وقد كان صدور الطبعة الأولى للرواية عن دار تبر الزمان عام 2000، ونالت في نفس العام إحدى جوائز الكومار الذهبي، كما كتبت حولها عديد المقالات، وانعقدت ندوات في نادي الصّحافة ببنزرت، ونادي القصّة بالورديّة، ونادي الطّاهر الحدّاد بتونس.

تدور أحداث الرواية في فترة الثلاثينيات من القرن الماضي وبداية الأربعينيات، أي أيّام اندلاع الحرب العالمية الثانية، وتتّخذ مسرحا أساسيّا لها مدينة بنزرت، كما تتجوّل في مواقع ثانوية أخرى، مثل تونس وقربص وسوسة . ويتألّف هذا العمل من روايتين بينهما تداخل وتشابك هما رواية الأخ الكبير ورواية الأخ الصّغير، ممّا يجعل الحكاية الأصلية الواحدة تروى بطريقتين مختلفتين تتكاملان في النهاية، حتى أنّ واقعة بعينها يرويها الأخ الكبير في الجزء الأول من الرّواية، نجدها مرويّة من الأخ الصّغير في الجزء الثاني منها حتى تكاد تشبهها ، ولكن بتفاصيل مختلفة وأحاسيس مغايرة، فيما يشبه التقاطع أو التّناظر أو تعدّد الزّوايا، وهذا من الأساليب السّرديّة المستحدثة التي جعلت من هذه الرواية عملا رائدا، ومن مؤلّفها مبدعا مغرما بالتّجديد، ومتمكّنا من أدواته في نفس الوقت.

ففي القسم الأوّل يروي الأخ الكبير (الطيّب) من باب الذّكرى قصّة حبّ عنيف وطريف جعله يتعلّق ببيّه الفتاة الفاتنة التي لا تترك بجمالها الأخّاذ رجلا على الحياد ( كما يقول). لكنها لسوء حظّه امرأة تنتمي إلى وسط منحلّ اجتماعيّا وأخلاقيّا، فأخوها المخنّث ، إضافة إلى شذوذه، ظلّ يشجّعها على معاشرة الرّجال واستثمار جمالها، وقد أثارت علاقة الطّيّب بالفتاة وأخيها انتقاد أخيه الصّغير ، فخاطبه في شأنها وانتقده عندما علم بتفكيره في العودة إليها بعد قطيعة قصيرة. وتتصعّد الأمور أكثر عندما أصبح يطيل البقاء عندها، حتى تبلغ حدّ التوتّر والخصام عندما يعلن رغبته في التّزوّج بها . عندها تقف العائلة جدار صدّ منيع ضدّ المشروع ، في انتظار أن تتهيّأ ظروف مؤاتية لإجهاضه نهائيّا. بعد أداء الخدمة العسكرية التي ألهت الطيّب عن خيبة حبّه الأوّل، عاد ليرتبط وجدانه بفتاة يهوديّة هي ابنة فيكتور صاحب حانة ألف التردّد عليها وقضاء أطيب الأوقات مع صحبه فيها، واشتدّ عشقه لتايته ابنة صاحب الحان حتى كاد يطلبها للزّواج لولا كراهية أمّها الشديدة له و صدّها العنصريّ العنيف.

أمّا القصّة الثانية التي عاشها الأخ الصّغير ( الطّاهر )فهي لا تقلّ غرابة وجنونا في عالم محافظ متزمّت يعتبر كلّ خروج عن المألوف ومخالفة للعرف ضربا من الاستهتار بالقيم وخيانة المبادئ. فما إن أعلن الأخ الصّغير تعلّقه بمومس وبأنه سيطلبها للزّواج حتى نزل الخبر على العائلة نزول الصّاعقة ،وجوبه مطلبه بالرفض الصّارم القاطع. حبّ آخر مستحيل، حبّ زمن مجنون. ولنأخذ حكاية المومس هذه مثلا على طريقة الكاتب في روايتها بشكلين مختلفين ،بحيث لا تكتمل ملامح شخصياتها وأطوار أحداثها إلا باكتمال الرّوايتين . فالأخ الكبير روى عن المرأة أنها : « قدمت من الجزائر مع رياضيّ ذهب للمشاركة في سباق درّاجات، ويبدو أنه لم يكن يخصّص الوقت كلّه للمباريات الرّياضيّة ممّا أتاح له فرصة للتّعرّف

على تلك الفتاة الظّامئة إلى الحبّ ومغامراته السّحريّة، فتعلّقت به وهربت معه خفية عن أهلها. لكنّ أيّام الحبّ قصيرة ، وغدر الحبيب كان أسرع ممّا توقّعت. توالت المحن بعد فرار الحبيب وتنكّره، وتنقّل حال جنّات من سوء إلى ما أسوأ منه، وانتهى بها المطاف في محلّ عجوز قدّمتها في السّرّ هديّة لأفضل زبائنها...».

الواقعة نفسها يرويها الأخ الصّغير في الفصل الثاني من الرّواية بطريقة تكاد تكون متشابهة في ملامحها العامّة لكنها تختلف في التّفاصيل. فيقول إنّ جنّات : « روت تفاصيل هروبها من أهلها في قرية جبلية جزائريّة إلى دير راهبات في مدينة كبيرة، ثمّ الهروب من الدّير والسقوط في مغريات الطّيش، إلى أن وضعت الصّدف في طريقها شابّا رياضيّا حلو القسمات، رقيق الحديث، فرش الأرض أمامها وردا بلا شوك، وزيّن الطّرق والممرّات بالفوانيس وقلائد الزّينة، فخطت فيها أالخطى الأولى وما بعدها دون انتباه إلى الضّلال الذي جرّها إليه، ثمّ تملّص منها بعد أن رافقته إلى بلده، وباعها إلى نخّاسين من تجّار الرّقيق الأبيض استغلّوا جمالها وبراءة شبابها وزجّوا بها في دور البغاء...».
  
لم يخطىء محمد آيت ميهوب عندما ركّز مقدّمته على دلالات الزمان والمكان في هذا العمل لشدّة ما اهتمّ صاحبه بالأجواء المضطربة المتقلّبة « بين عسر ويسر بين نهضة وسقوط بين عقل وجنون بين التنوير والظلمات « كما يقول الكاتب على لسان إحدى شخصيّاته. ولشدة انغراسه في المكان يفصّل ذكر أجزائه وأجوائه النفسية والبشرية. وبهذا نرى أنّ تحوّلات الزّمان وتغيّرات المكان حفّزتا مشاعر الخوف لدى الكاتب من أن يأتي التّلف على ما اختزنته الذّاكرة فانشغل بالمحافظة على لغة الحوار المشهدية وصور الأمكنة وهيئات الشخوص وتعابير الأغاني الشعبية.

فكلّما تعلق الأمر بالموقع الأصلي لأحداث الرّواية نجد المؤلّف كعالم آثار أو كدليل سياحي يتجوّل بنا في الشوارع الرّئيسيّة والأنهج والأزقّة الضّيّقة، متنقّلا بين الأسواق وأبواب الأحياء العتيقة، والموانئ ، وبساتين الكورنيش، وحيّ جرزونة، دون أن يغفل عن ذكر أماكن بعينها ، أو أن يستعين بالأغاني الشعبيّة من أجل اكتمال المشهد العامّ وأجوائه.

وثمّة إشارات كثيرة تؤكّد ارتباط الرواية بذاكرة مؤلفها وتشابكها مع واقع عاشه زمانا ومكانا، نستشفّ منه أحيانا عودة بالطّفولة إلى منابعها الأولى، واكتشافا لملامح الكاتب نفسه، وتطابقها مع شهادات أخرى رواها في مواقع مختلفة، ممّا يتكتّم عليه الكتّاب عادة، مختفين وراء جدار الإيهام ، وما يحدثه من ابتعاد عن الواقع وإيغال في الخيال. ولنا أن نضرب مثلا على ذلك معاناة أهل بنزرت من ويلات الحرب العالمية الثانية، وهروبهم منها سواء إلى بساتين الكورنيش أو إلى القرى المجاورة كرفراف والماتلين والعالية، أو الابتعاد أكثر إلى جهة الغرب حيث سجنان وماطر وجبل إشكل، مع ما تبع ذلك من تفشّي الأمراض المعدية كالجرب والتيفوس، نتيجة الفقر وقلّة النّظافة، في ظلّ أوضاع اجتماعيّة بائسة وسيطرة استعمارية غاشمة. إنّ رواية « حبّ الزّمن المجنون» شهدت الأحداث نفسها في الفترة الزمنية عينها، ممّا يزيدنا وثوقا بانغراس عبد الواحد براهم في واقعه، وتشبّثه بالمكان جاعلا من روايته هذه حدثا أدبيّا وتاريخيّا في نفس الوقت.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115