ويعملوا لتأمين مطالب الدنيا، لكن ليس للدنيا بذاتها، بل لتحصيل مقاصد الآخرة. ولا ينبغي بحال أن تُفهم الآية على أنها طلب لترك الدنيا ونبذها والزهد فيها، فهذا الفهم لا تفيده الآية، بل هو فهم سقيم عقيم ترده الآية، وتنسفه من أساسه، بل الفكرة الأساس التي تقررها الآية أن ترك الدنيا ونبذها تماماً غير مطلوب، وليس مشروعاً، كما أن اعتبارها كل شيء مسلك خاطئ، مناقض للمقصد الأساس الذي خلق الله لأجله العباد.
فالحياة التي يطلبها المؤمن، ويسعى لها سعيها، إنما هي الحياة التي تخدم الآخرة، وتكون طريقاً إليها، وليست تلك الحياة التي تباعد بين العبد وآخرته، وتجعل بينه وبينها حجاباً مستوراً، وسداً منيعاً.
ومن هنا يكون من الأهمية بمكان النظر إلى الآية بشطريها الأخروي والدنيوي، ومراعاة كون الأول هو الأساس، والثاني تابع له، وبالتالي يكون من الخطأ البين أن تتجه الأنظار إلى الشق الثاني من الآية، جاعلة إياه هو محور النشاط والسلوك الإنساني، ويكون بهذا التوجه قد قلب معنى الآية رأساً على عقب، وفُرغت الآية من مضمونها الأساس، ومقصدها الأصلي الذي جاءت لتقريره.
ويمكن فهم الآية من زاوية أخرى بأن يقال: إن الآية طلبت من العباد أن يطلبوا الدنيا بحسب قيمتها، وأن يطلبوا الآخرة بحسب قيمتها أيضاً. وبحسب هذا النظر، تكون الآية قد أعطت للمؤمن مقياساً ومعياراً وميزاناً، وطلبت منه أن يقيس ويعاير ويزن الأمور من خلاله.
ولبعض مفكري الإسلام تعبير جميل في هذا الصدد، حيث يقول: «ينبغي ترك هذه الدنيا قلبياً، وليس كسبياً»، بمعنى أن المؤمن لا ينبغي أن يجعل الدنيا في قلبه، بل في يده، يتحكم بها، ويصرفها وفق ما يخدم آخرته، بحيث يكون محور نشاطه في هذه الدنيا هو الآخرة على الدوام، أما إذا كانت الدنيا في قلبه، فإنها تحكمه، وتصرِّفه وفق شهواتها ومغرياتها، وتصرفه عن وجهته الأخروية.
وبحسب ما تقدّم، يتبين أنه ليس ثمة خصام بين المؤمن ودنياه، بل هو على وفاق وتوافق معها.
ولا يخفى أن فقه هذه الآية والعمل بما قررته وأصَّلته، لا يناله إلا من وفِّق لفقه كتاب الله، ومن رُزق إيماناً صادقاً، يعرف من خلالهما مراد الله.
ويوضح مقصود هذه الآية غير ما تقدم ما رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي، فقال»كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل»، وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك. «والله يقول الحق وهو يهدي السبيل» (الأحزاب:4).