عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ :
سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلا يَقُولُ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ الأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ تَلِدْ وَلَمْ تُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَكَ كُفُوًا أَحَدٌ .
فَقَالَ : « قَدْ سَأَلَ بِاسْمِ اللَّهِ الأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أُعْطَى وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ «.
يَندرج هذا الدّعاء ضمنَ مَا يُسمّيه علماء الأصول السنّةَ التقريريَّةَ ومَعْنَاهَا أنْ يرى الرسول، صلّى اللهُ عليه وسلّمَ، أمرًا من الأمور فيقرّهُ إمّا بالصمت عليه، وإما بتعبيرٍ من تعابير وجه الشريف كأن يُرى عليه أثرُ السرور، أو بكلامٍ واضحٍ يفهم منه رضاه عن ذلكَ الفعل. فيعتبر هذا الإقرار سُنةً بمعنى أنه فعلٌ رضيه الرسولُ وحاشا له، صلّى اللهُ عليه وسلّمَ، أن يَرى منكرًا فلا يغيّره ولا تظهرُ عليه علامات الرفض أو الاعتراض. وكما هو معلوم يضاف هذا القسم من السنة إلى السنة القولية أي الأحاديث وإلى السنّة الفعليّة أي الأعمال المشاهدة كطريقته في الصلاة.
وموضوع هذا الإقرار دعاءٌ ومناجاةٌ وسؤالٌ وابتهالٌ قالَهُ أحدُ الصّحابة الأعلام، لم يُذكرْ اسمه، بمحضر الرسول، صلّى اللهُ عليه وسلّمَ، وفي الدعاء لطائف كبرى وأسرارٌ عليا نجملها كالآتي:
بدئ الدّعاء بقوله : «اللهمّ» وهي كما رأينا كلمةٌ قرآنية تفيد النداءَ للقريب وتعني الافتقارَ والتذللَّ.
ثمّ قال الصحابيّ : «إني أسألكَ» أي أطلب منكَ يا ألله، وفي الكلام حذفٌ، أي مفعولٌ به لم يُذكر لدلالة السياق عليه. وتقديره أسألك كلَّ أصناف الخير وأنواع الصالحات، ما علمنا منها وما لَم نَعلَم. وحذف المفعول ليكونَ الكلام أدلَّ على شمول الخير وعمومه. ومثاله قوله تعالى في سورة الضحى: «ولَسوفَ يعطيكَ ربكَ فترضى» فحذف مفعول يُعطيكَ ليكونَ أدلَّ على شمول العطاء وفيض النَّوَال.
ثم قال الصحابي: «أسألُكَ بِأَنِّي أشهدُ» أي إنه يتوجه الى الله ويتوسّل إليه بطاعة شَرَعَهَا اللهُ وهو الإقرار بالتوحيد. وفي هذا دليلٌ قاطعٌ على جواز التوسّل إلى الله بصالح الأعمالِ. والمعلوم عند علمائنا أنّ التوسّل لا يكون إلا بأمْرٍ مَشروعٍ وليس شيٌ أعظم من كلمة التوحيد يُتَقَرَّب بها إلى الله ويسأل بها الخيرَ. فكأنما يقول الصحابي : يا ربي أتضرّع إليكَ بأن تعطيني الخيرَ، ما ظهرَ منه وما بطنَ، وأقدّم إيماني بوحدانيتكَ دليلاً على ضعفي وإقراري بكَ عساكَ تتقبّلُ ذلكَ الايمانَ وتجعله سببًا في استجابة الدعاء.
وأما موضوع الشهادة فهو تضمينٌ واضحٌ لسورة الإخلاص وفيه أيضا دليل قاطعٌ على جواز تضمين آيات القرآن أو البعض منها في الدعاء والمناجاة وسائر أنواع الخطاب لأنَّ أفضلَ ما يدعى به هو ما في القرآن وأفضل ما به يوصف الله هو ما وصفَ به نفسه العلية في كتابه العزيز وهذا ما أقره علماء الأشعرية من ضرورة الاقتصار في وصف الله على ما وصف به نفسه ولذلك قال بعض العارفين: «له صفة ما حدّها واصفٌ».