النقد والإبداع: أية علاقة؟ تجربتي في الكتابة النقدية

بقلم : فاطمة الأخضر

إنّ الطّرائق المتنوّعة في الكتابة تفرض توخّي مناهج متنوّعة أيضا في القراءة.

ذلك أنّ كل نصّ يفرض ما يناسبه من مقاربة ملائمة لأنّه إن كان طريفا كانت له سلطة يستمدّها من حريّة كاتبه التي لا تتقيّد بما قد يطمس خصوصيته.

على أنّي في تقيّدي بمناهج نقديّة لا أعتمد صرامة علميّة فيها الكثير من الشّطط كما لا أتيح لنفسي حرّية فيها غبن وتهميش لتلك المناهج النّقديّة التي تصلح للحدّ من القراءة الانطباعية المنفلتة. ولا شكّ أنّي فيما أذهب إليه أسعى إلى شيء من الموضوعيّة العلميّة وأنا مؤمنة كلّ الإيمان بأنّ النصوص الأدبيّة تنزاح خارج كلّ معيار لأنّها من مستوى الكلام. والكلام خاصّ منطلقه الذّات الفرديّة. وكما أنّ لكلّ ذات خصوصياتها وبصماتها فإنّ لكلّ نصّ أدبيّ خصوصيّاته وبصماته.

عند القراءة أقبل على النصّ بنيّة خالصة باحثة عمّا يمكن أن يضيف لي ثقافيّا، حميميّا، وفكريّا عند قراءة ما كتبه صاحب النّص، ممّا قد يجعلني أكتشف المزيد من خبايا نفسي من خلال تفاعلي معه. أتركني على سجيّتي ولا أتسرّع في تسليط حكم مسبّق من البداية بالتّوقف عن القراءة عند نقطة مّا، أو القراءة بعجالة أو قراءة البداية والنهاية للنّصّ  أو إلقاء نظرة خاطفة انحرافيّة مخلّة ببنيته، ثمّ أنصرف عنه انصرافا قد لا يخلو من الظّلم.

لا أحبّ أن «أبخس النّاس أشياءهم» بل أتّهم نفسي عندما لا أتفطّن إلى ما أُسميّه «شذر الكلام» وأعيد القراءة حتّى يحيا النّصّ بما قد يحصل من تفاعل.

في قراءتي أعمد إلى تفكيك النّص باعتماد وسائل اللّسانيّات، فهي أضمن المناهج بالنّسبة إليّ وأعتبرها مفاتيح-أنوار ضروريّة لفتح مغالق النّصّ، إذ بتسليط أضوائها الكاشفة على بُؤر «شذر الكلام» تكشف ما وراء لعبة الظّهور والتّخفّي الّتي يمارسها الكاتب بحرّيته في التّلاعب بالعلامات. فالمنطلقات الأولى والأساسيّة الّتي تمنع من التّيه والضّياع هي في رأيي تلك الوسائل: بداية من  الأصوات إلى الظّواهر والحقول المعجميّة والبنى الاشتقاقيّة والنّحويّة والحقول الدّلاليّة ووسائلها والأعمال اللّغويّة والقوليّة والإحالة والزّمان والمكان والأسماء والأفعال والصّفات...
كلّ هذا يساعد على التّأويل، والتّأويلات كثيرة كثرة عدد القرّاء وكثرة طرق النّقد ومناهجه.

ولئن كانت المناهج النّقدية متنوّعة منها الاجتماعيّ ومنها النفسيّ ومنها ما يصف ويكتفي برصد الأنساق والبنى والرّموز والأدوات الشّكلية لكشف نظام النّص دون تعليل ولا تفسير (البنياويّة مثلا) ومنها ما يكتفي برصد الظّواهر المعنويّة والموضوعيّة بإعادتها إلى مصادر مغرقة في التّاريخ (كالمنهج الأسطوريّ). ومنها ما يركّز على تفسير النّصّ مقارنيّا بما سبقه من نصوص عالمية فيُفقد النّصّ خصوصيّة سياقه الفنّي والنّفسيّ والاجتماعيّ، ومنها، ومنها،...

وعلى النّاقد الجادّ أن يكون له اطّلاع على مختلف نظريّات مناهج النّقد لأنّ كلّ منهج منها يريد أن يكون علميّا معرفيّا يُساعد على اكتساب نصيب من الموضوعيّة. لكنّ المهمّ أيضا هو احتفاظ القارئ النّاقد بحرّيته في القراءة. وعليه أيضا بكثرة قراءة النّصوص ليتمكّن من امتلاك تذوّق لها يكسبه القدرة على التّمييز بينها من حيث مقدارها من شذر الكلام، ويساعده أيضا على اعتماد المنهج المناسب لقراءة كلّ نصّ على حدة بما اكتسبه من حدس يجعله قادرا على بلورة مقاربة مَقيسة على قدّ النّصّ مناسبة له دون غيره من النّصوص تستجيب لخصوصيّاته بما أنّ لكلّ نصّ خصوصيّاته إلاّ أنّها يجب أن تكون مقاربة مقيّدة في الوقت ذاته بقيود الموضوعيّة.

لكنّ ذهاب بعض المنظرّين إلى تقييد النّاقد بقيود المناهج فقط، لتكون قراءته علميّة تجنّبه إطلاق أحكام تقييميّة تُحسب على الانطباعيّة وتُتّهم بالذّاتيّة والتّحيّز والافتقار إلى الموضوعيّة، هي في رأيي خلط بين البحث الأكاديميّ الّذي يعرّف الطّالب بالمنهج ليطبّقه على الأثر. فقد يكون التّطبيق للنّظرية موفّقا ولكنّه كثير الحياد، لذلك هو في رأيي، ليس نقدًا-إبداعا لبرودته العلميّة ولخلوّه من الرّوح الّتي نجدها في النّقد الإبداعي. هناك روح يجب أن يكتسبها النّاقد من تفاعله نفسيّا واجتماعيّا وفكريّا مع النّص المقروء فيُجلّي ما في كلّ نصّ من شذر الكلام ويحدّد مقداره ونوعه وقيمته وخصوصيّاته. فنقد الأستاذ توفيق بكّار مثلا إبداع يجلّى قيمة النّصوص التي أحبّها وكتب عنها، فلنقده خلفياته المنهجية لكنّها شفافة لا ترى لأنه يسخّرها

لإرادته فلا تقيّد حريته إذ يتحكّم فيها ولا تتحكّم فيه. وإطلاق الأحكام في النّقد أمر ضروريّ لتحديد قيمة النّصوص لأنّ النّاقد يصقل ويحدّد عيار كلّ نصّ كما يفعل الصّائغ مع الذّهب. فالأعمال الأدبيّة ليست كلّها بنفس المقدار من الجودة ولن يبلغ أيّ عمل منها درجة الكمال مهما ارتفعت قيمته إذ يبقى فيه من النّقائص ما يجعله دون 24 قيراطا (وهذا معقول لأنّ الصّائغ لا يمكنه أن يصوغ حلية ذهبيّة إلا متى خلط الذّهب الخالص: 24 قيراط بمعدن آخر ليتمكن من تشكيله وفق ما يريد). فكلّ عمل أدبيّ له نصيبه من شذر الكلام بنسبة مّا، يكتشفها النّقاد إمّا في زمانه أو بعد زمانه. وقد بيّن هذا الأمر جون تورتالJean Tortel  في كتابه « Qu’est que la littérature » عندما تحدّث عن بعض الأدباء الأفذاذ ممّن عانوا في عصرهم ولم يبرزوا إلا في عصور تابعة واُعتبروا في عصرهم «شعراء مضحكون». وحتّى ما يعبّر عنه بلذّة النّصّ فهو نسبيّ متفاوت أيضا في رأيي إذ نسبة لذّة النّص تتأثّر بمقدار تفاعل أنواع القرّاء وهم شديدو الاختلاف، فالنّصّ قد يعجب أحدهم وقد لا يعجب غيره.

ومهما قيل عن العلمنة والعولمة باعتبار أنها تريد أن تكون قواسم مشتركة بين الإنسانيّة في كلّ المجالات حتّى في مجال الأدب والفنّ والفكر. فأنا أعتقد أنّ الاختلافات والخصوصيّات الّتي وراءها ما وراءها من تراكمات معرفيّة، ثقافيّة تاريخيّة، حضاريّة وفكريّة لها تأثيرها ولها وجودها الملحوظ في الفنون والآداب بالخصوص.

لهذه الأسباب أقرأ النّصوص قراءة تفاعليّة بقيود لسانيّة كما ذكرت، وبما لدّي من قناعات ثقافيّة، معرفيّة ونفسيّة قد تلائم النّصّ المقروء وقد لا تلائمه فيصدّها باختلافه، لكنّ صدّه لا يجعلني أنصرف عنه بل يزيد من عنادي لاستكشاف ما أنكرته منه متّهمة نفسي بالتّقصير في حقّه. فأعيد القراءة من جديد وأنا مقتنعة بأنّي مهما فعلت فإنّي مجرّد قارئ ضمن ملايين القرّاء ذوي المرجعيّات الفكريّة، المعرفيّة، الثّقافيّة، الاجتماعيّة والنّفسيّة المختلفة إلى ما لا يمكن حصره. ثمّ إنّي  أعلم مسبّقا أنّي قد لا أتفّطن إلى ما سيتفّطن إليه غيري وقراءتي تبقى في الحقيقة مغامرة فرديّة ووجهة نظر شخصيّة أقولها باعتماد حرّيتي في القول ولا أفرض قبولها على أحد تقديرا لحرّيته في القبول أو الرّفض.

كذلك الشأن في مجال الشعر بالنسبة إلى فضيلة الشابي فهي تمارس كشعراء الحداثة جميعا حريتها في البحث والنقض والمدّ لا الجزر في سفر الفنان إلى دنيا المجهول والمدهش والخارق، سفر جموح في الشساعة يؤدي إلى اختلاف، يؤدي إلى بعثرة الأنظمة إذ يفقد فنان الخيال هذا ذاكرته ويكتب من «النسيان» كما تقول فضيلة الشابي ولا يهمه أن يؤدي اختلافه إلى اتهامه بالجنون. فالمجنون عندها (المجنونات في «الاسم والحضيض») هو المختلف. وهو الرمز الحقيقي للإنسان المبدع إنسان الحركة والتطور.

وخلاصة القول إنّ بين الإبداع والنّقد علاقة وطيدة عندما يكون النّقد رجع صدى فيه تفاعل بالنصّ وإغناء له وإضافة ويرتقي إلى مستواه الإبداعي. أمّا حين يكون النّقد تطبيقا لمنهج نقدي مقياس خال من روح النّاقد فهو مجرّد بحث علمي تطبيقي أبعد ما يكون عن الإبداع.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115