في بعض شؤون الثقافة// إسلامُ النشأة المفقود: بَينَ الفِتنة الكُبرى والخُلفاء الذين نَزلتْ بهم اللّعنة

يَذهبُ الحكماءُ إلى أنّ الله أمرٌ مُشكلٌ، كلّما قامت ألف حجّة على وجوده، قامت ألف حجّة مثلها على عدم وجوده. والله لا يستقيم إلاّ في

ظلّ هذه الألف وتلك الألف الثانية الأخرى. والله، مثل كلّ ربّ، إشكال صارخٌ قوامه الإثبات والعدم، انبنى على الجدل بين الكفر والإيمان، وكرّس علمُ الكلام والفلسفة ذلك منذ القديم.
ومثلما كان الله إشكالاً كان إسْلامُ النّشأة المَفقود إشكالاً أيضاً. وإسْلامُ النّشأة المَفقود إسلامٌ قام على أمره محمّدٌ النبيّ والخلفاءُ الراشدون والصحابةُ الذين انتشروا في الأصقاع. إسلامٌ كان قبل الإسلام الاجتماعي الذي تشكّل في ظلّ الأمويين وترسّخ في ظلّ العباسيين. وهذا وحده الإسلام الذي نعرفه، إسلام السلطة والفقه والمؤسسات. إسلام القرآن المختوم والثقافة المختومة. أمّا إسلام النشأة المفقود فقصّةٌ تُروى، تتغنّى بالتاريخ المجيد، تتغيّر حسب الأهواء والملل والنحل والمذاهب الكثيرة، وتتخذ المنحى الذي أراده لها الرواةُ، والرواةُ كانت تُسيّرهم الأهواء والملل والنحل والمذاهب الكثيرة. ولا تستقيم قصصهم إلاّ من وجهة نظر هذا المذهب أو ذاك.
ويمكن أنْ نقول اختصاراً إنّ إسلام النشأة المفقود قامت على أمره قصتان متقابلتان متضادّتان، قصّةٌ سُنّيةٌ شهيرةٌ نعرفها منذ قرون، وقصّةٌ شيعيّةٌ كانت أقلَّ من الأولى انتشاراً ولكنّها فازت بالتبجيل والتقديم في العصر الحديث وانتشرت تُزاحم الأولى في الانتشار، فاكتشفناها وقدّمناها على الأولى، وقد ظننّا أنّها الأوْلى بالتصديق، وهي في الحقيقة مثل الأولى، كُتبت ذكرى للصراع على السلطة، ولكنّها تمتاز عن الأولى بميزة الخلود لأنّها بنتُ الاضطهاد، ونحن نحبُّ إحياء صُور الاضطهاد في عصر الانتشاء بالديمقراطية وحقوق الإنسان وحرّية التعبير، كأنّنا نُحاول بذلك التكفيرَ عن ذنب الآباء والأجداد.
ويُمكن أنْ نقولَ ولا حَرَج إنّ الصراع الدائر اليوم في الإسلام، هو صراع في إسلام النشأة المفقود. كلّما قامت ألف حجّة على وجوده قامت ألف حجّة على عدم وجوده. وإذا افترضنا وجوده بصيغة من الصيغ قامت معنا ألف حجّة للتدليل على وجوده بتلك الصيغة التي اخترناها، وقامت عند الخصوم ألف حجّة على عدم وجوده بتلك الصيغة التي اخترناها، وألف حُجّة تتغنّى بصيغة أخرى لذلك الإسلام. فإذا الإسلام نفسه يتشكّل اعتدالاً وسماحةً وعدلاً بعينٍ من الأعين، وعنفاً واضطهاداً وإقصاءً بعينٍ أخرى من تلك الأعين.
إنّ العلماء الأجلاّء، مهما تكنْ مراتبهم في العلم والجلال، لا يعرفون إسلام النشأة المفقود إلا من خلال القصص المروية التي تتشكّل تاريخاً وهي ليست من التاريخ في شيء، مُجرّد قصّة تُروى هنا خلّدتها كتبُ السنّة وتناقلها عنها عُلماؤهم الأبرار، أو قصّة تُروى هناك خلّدتها كتبُ الشيعة وتناقلها عنها عُلماؤهم الأبرار أيضاً. وقد قام العلماء الذين على عرش العلم استووْا اليوم، يروون هذه القصّة أو تلك يظنّون أنّهم يُؤرّخُون للإسلام وهم لا يفعلون إلاّ إعادة ما أراده السلف الصالح من أهل السنّة أو الشيعة، إعادةً جميلةً قد تتشكّل روايةً أو سرداً، وقد تتشكّل بحثاً علميًّا صارخاً، فتُثير الجدل وينتهي الصراع بين أصحابها إلى التراشق بالتهم والقذف والتشويه والتحقير والاتهام بالتحيّل والتزوير.
ومن بين أهمّ القصص المروية في إسلام النشأة المفقود قصّة خلافة محمّد وما تأتّى من أحداث في عهد الخلفاء الراشدين وحياة الصحابة الأبرار. فقصّة خلافة محمّد هي قصّة خلافة الأب المؤسّس، والأب المؤسّس في كلّ ثقافة قصّة ميثية جميلة، وأسطورة من أساطير التأسيس، في علم أنتروبولوجيا الأديان، تتشكّل أحداثها وفق الانتماء. فإذا كُنتَ من أهل السنّة والجماعة اعتبرتَ تَعيينَ أبي بكر الصدّيق والخلفاء الذين جاؤوا بعده بالتعيين أو شبه التعيين، قصّة الإسلام الحقيقية التي على المسلمين حمايتها والذود عنها وفرضها على المسلمين. وإذا كنت من أهل الشيعة اعتبرت قصّة تعيين أبي بكر الصدّيق والخلفاء الذين جاؤوا بعده بالتعيين أو شبه التعيين قبل علي بن أبي طالب، قصّة السطو على الحقوق واستلاب أهل البيت السلطانَ واضطهادهم اضطهاداً دائماً شنيعاً.
إذا كُنتَ من أهل السنّة والجماعة تَغنيتَ بالخلافة الراشدة وقَدّستَ الخلفاء وجَعلتَهم مُواصلةً لمسيرة محمّد النبيّ، وجَعلتَه وجَعلتَهم على رأس إسلام النشأة المفقود الذي تُحييه فيك إسلاماً رسميًّا مشهوداً وحقيقةً لا تقبل الجحود، وطَعنتَ بالكلّية في كلّ محاولة لوقف هذا الإسلام، واعتبرتَ كلّ خروج عنه فتنةً للمسلمين، جُعلت للتفرقة بين المسلمين، واتّهمتَ الشيعةَ بإثارة الفتنة الكبرى لوقف المسيرة الخالدة ووضع شرذمة من المتطرّفين على أمر الإسلام الذي لا يقبل هذه الشرذمة حسب هذا الاتّجاه في الإسلام.
وإذا كنتَ من أهل الشيعة طَعنتَ في الخلافة الراشدة ولعنتَ الخلفاء وجَعلتَهم وقفاً للإسلام الذي أسّس له محمّد النبيّ وأوصى به من بعده لصهره وابن عمّه عليّ بن أبي طالب، وأعلنتَ أنّ مُؤامرةً سرّيةً قامت في الخفاء، تحت إمرة أبي بكر وعمر ومن التفّ حولهما من المهاجرين وقلّة من الأنصار، فحَرَمَت الصهرَ وابنَ العمّ حقّه في خلافة النبيّ، واتّهمتَ الخلفاءَ ومن جاء بعدهم بتسليطهم العنف على آل البيت، والأمر بقتلهم والقضاء عليهم أجمعين، وإراقة دمائهم في كلّ حين. كذلك جَعلتَ إسلام النشأة المفقود إسلامَ اضطهاد أهل البيت، وتغنّيتَ بالاضطهاد، وناديتَ على مرّ القرون بالثأر من المجرمين ولعن أولئك الخلفاء الذين نزلت بهم اللعنة منذ أوّل الأوّلين.
إنّ الكتب التي تُنشرَ اليوم لا تحيدُ عن هذا المسار أو ذاك المسار. فهي إنْ تحدّثتْ عن الفتنة الكبرى تبنّتْ، عن قصد أم عن غير قصد، مقولات أهل السنّة والجماعة، ودافعت عنها وإنْ في ظلّ الدعوة إلى أصول البحث العلمي والتحرّي. وهي إنْ تحدّثتْ عن الخلفاء الذين نزلت بهم اللعنة تبنّتْ، عن قصد أم عن غير قصد، مقولات الشيعة، ودافعت عنها وإنْ في ظلّ الدعوة إلى أصول البحث العلمي والتحرّي. ولكنّ أصول البحث العلمي والتحرّي شعارٌ يُرفعُ ليس غيرُ، لأنّ هذه المسائلَ ذاتُ علاقة بالإسلام، ساعةَ نشأ، والإسلام ساعةَ نشأ خلّدته قصص القرن الثاني والثالث الهجرييْن، أي بعد قرنيْن أو ثلاثة من وجوده المُفترض، فكان إسلامَ ذكرى وتشكّل في الثقافة إسلامَ النشاة المفقود.
انظر العلماءَ يتصارعون في إسلام النشأة المفقود، كلّ فريق منهم يُريد أنْ يُبيّنَ أنّه الأعلمُ بإسلام النشأة المفقود والأجدرُ بتمثيله خير تمثيل. انظرهم عُلماءَ في أمر غير موجود، يتصارعون في أمر غير موجود. كلّه إسلامٌ مفقود!
فَلِمَ الصراعُ في إسلام النشأة المفقود؟

وحيد السعفي

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115