قاعة الدكتور المنجي الشّملي بمدينة الثّقافة , تونس ـ في الذّكرى الثّانية لوفاته , وقد كان رئيسها السيّد رضا كشتبان وفيّا لما وعدنا به، ووفيّا بالخصوص للرمز بكّار. هذا الرمز، وإن كان ملكا للجميع، فلهذه الجمعيّة حظوة خاصّة عند بكّار، شجّعها منذ نشأتها سنة 2012، كما شجّع مبادرات ثقافيّة أخرى.
لئن كان الملتقى الأوّل في السنة الماضية تنفيذا لفكرة اقترحها بكّار بنفسه وبحضورنا على رئيس هذه الجمعيّة، فغاية هذا الملتقى أن ترضى روحه الصافية بالاهتمام بموضوع عزيز عليه وهو العلاقة بين النقد والإبداع. ولم يكن المقصد استفراغ القول في هذا الموضوع، ولا الإحاطة به، بل التحسيس بأهمّيّة النظر فيه من الوجهة التي كان ينظر منها أستاذنا الراحل. فكم كان يلحّ في كتابته وبكتابته أنّ النقد إبداع على إبداع في كلّ شيء. وهذا ما أكّده أحد الأعلام في اللغة والبلاغة والأدب، حمّادي صمّود في مداخلته التي لم تكن سوى درس رائع ألقاه على مسامع النشء المتعطّش للمعرفة من الحاضرين، وعلى قلّة من الكهول لم تؤثّر في عزائمهم ثقافة الرداءة.
لم ينعقد هذا الملتقى بسهولة، وإن كان تنظيمه يسيرا. فالمنظّم لم يجد ممّن دعاهم إلى المشاركة من الأعلام سوى الترحيب والسرعة في الاستجابة: حمّادي صمّود، وصالح بن رمضــان، ومبروك المنّاعـــي، وهنـــد الســــوداني. ولبّـى الدعوة أعلام آخرون حالت دون حضورهم طوارئ لم تكن في الحسبان، أو التزامات أخرى مزامنة، لم يكن من الممكن فيها غير الاختيار. أتى المشاركون وأتى الجمهور، وكان بعضهم حاضرا قبل الموعد بما يقارب الساعة، وعلى رأسهم الأستاذ الجليل حمّادي صمّود، كعادته يتقدّم المواعيد حيث يتخلّف الآخرون.
لم يأت الجمهور لربح شيء غير الاستماع إلى كلام رفيع. ولم يأت المشاركون من الأعلام لمال أو لصورة على شاشة حمقاء، أتوا فقط ليقولوا قولا رفيعا لآذان تريد أن تسمع.
حدّثنا صمّود عن الإبداع ما هو، ورفع اللبس السائد في فهمه، وربط ما بين النقد والتمييز بقوّة العقل، وأبرز ما في هذا الشأن من كلّيّات ثقافيّة وخصوصيّات منوّعة. وحدّثنا بن رمضان عن المعرفة والحرّيّة والمسؤوليّة، وعن العلاقة بين المعرفة العالمة والمعرفة الجماليّة والوعي التاريخيّ بالنسبيّة. وحدّثنا مبروك المنّاعيّ عن أصل المعنى في الإبداع، ونبّهنا إلى مخاطر التجاوز في احترام أخلاقيّات الفنّ والنقد. وأبدعت هند السودانيّ في دراسة هذه المفاهيم بتدقيقات جامعيّة رفيعة وبمقارنات بين بعض المفاهيم السائدة في الثقافة الفرنسيّة وما قرأته وعرفته عن بكّار. وختمت المداخلات بنصّ رفيع لذيذ قرأته علينا تلميذة ناشئة نبيهة سيرين السّوسي تلميذة بشعبة الاداب و تستعدّ لاجتياز البكالوريا الفرنسيّة.
كانت القاعة منتبهة مشاركة مقبلة على الثقافة، لا تحفل بغيرها. ففي تونس خير رغم كلّ الرداءات، وبها نشء متطلّع، علينا أن نواصل الوقوف معه وإلى جانبه. فلأجلهم ما علينا، ولأجلنا ما عليهم.
لا تحتاج تونس بالضرورة إلى أعمال كبيرة، ولا إلى بطولات جسيمة. ولا حاجة لها إلى شعارات رنّانة كاذبة. يكفيها في التربية والتعليم والثقافة الإيمان بقيم سرمديّة ساذجة، والقيام بأعمال بسيطة في ظلّ هذه القيم. هي في حاجة إلى كبار لا يرون أنفسهم إلا صغارا لأجل أعين الصغار، وفي حاجة إلى صغار لا يرون أنفسهم إلا كبارا في أعين الكبار.