إلى صعوبات الحياد التام والنزاهة المطلقة، وإن تظاهر المهتمون بالدراسات التاريخيّة برسم المسافات بين الذاتي والموضوعي والالتزام بالشروط العلميّة، لذلك تتنوّع المقاربات ذات الصلة بالشأن التاريخي سعيا إلى فهم الماضي عبر الأجناس الفكريّة المتنوعة، والإبداعات المختلفة كي نقرأ درسنا التاريخي على نحو مغاير. ومن بين هذه الوسائط التعبيريّة الآداب بوصفها تأملات في الأحداث التاريخيّة، وإعادة قراءة للدراسات التاريخيّة، كما تعدّ الأعمال الأدبيّة شهادات موثّقة للوقائع السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة . وعليه يمكننا قراءة التاريخ بشكل مختلف عبر الأعمال الروائيّة والسرد الأدبي مثلما ورد في مداخلات الندوة الدولية التي انتظمت يوم 19 أفريل بالمجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون «بيت الحكمة»، وقد احتضنت كلية العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة بتونس يوم 18 أفريل فعاليات الافتتاح.
فالتاريخ بحاجة إلى نصوص أدبيّة من حيث هي شهادات تعرّف بأحداث وتأمّلات في وقائع، والأدب بحاجة إلى وقائع التاريخ بوصفها منطلقات للكتابة الأدبيّة، تلك هي المسألة الأساسيّة التي تناولتها الجلسة العلميّة الأولى المنعقدة ببيت الحكمة، والتي افتتحتها أستاذة الأدب المقارن والآداب الفرنسيّة المعاصرة سنية فيتوري زليتني، المؤكّدة على إسهامات الأدباء عبر التاريخ في التعريف بثقافات وطقوس الشعوب . وفي هذا السياق قدّم Philippe Roussin مداخلة حول الأحداث التاريخيّة والشهادات الأدبيّة؟، منطلقا من كتابات الروائي البريطاني «جورج أورويل» بوصفها أعمالا تأريخيّة للحرب الباردة والحروب الأهليّة مثل الإسبانيّة، كما تطرّق إلى كتابات «جون نورتون» الفاضحة للأنظمة الشموليّة والاستبداديّة.
وركّزت مداخلة الأستاذة في جامعة السوربون Catherine Brun على الكتابات الأدبيّة المهتمة بالحرب الجزائريّة، حيث توثّق نصوص الروائيين والشعراء وأعمال الفنانين «آلام الشعب الجزائري خلال حقبة الاقتتال»، منسجمة في ذلك مع مقاربة الأكاديميّة الجزائريّة سنية داودي التي تطرّقت إلى عنف وإرهاب الحرب الأهليّة على امتداد «عشريّة سوداويّة» حسب عبارتها . لنستخلص ممّا تقدّم قيمة الآثار الأدبيّة في كتابة التاريخ وإعادة قراءته بشكل مختلف عن الكتابة الرسميّة لأنها غالبا ما تكون موجّهة سياسيا، وعرقيا، ودينيا إخفاء للحقائق الصادمة مثلما أبرز الباحث البرتغالي Manuel Loff في مداخلة اهتمّت بالجرائم العنصريّة والاستعماريّة . وواكب رواد بيت الحكمة على امتداد يوم عديد المداخلات الأخرى ومائدة مستديرة حول التوظيف السياسي للتاريخ وأساليب تزييف الحقائق وأدلجتها وتذييتها، ليكون تأمّل التاريخ عبر مرآة الفكر والآداب والفنون حتمية كي لا يكتب وفقا لحسابات المنتصرين ولوبي صناعة القرار.