في بعض شؤون الثقافة: الدّينُ يا مَولايَ في خَطر

بقلم: وحيد السعفي
جاء في قصّة قصيرة لزكريا تامر * عنوانها الخطر، أنَّ عالِماً عَجوزاً قَصَدَ حَضرةَ مولانا الملكِ يَعرضُ

عليه ما اخترع. سَألهُ الملكُ: ما اخترعتَ؟ فأخْرجَ من جرابه شيئاً أزرقَ مُستديراً مُكوَّراً وقال مَزهوًّا: اخترعتُ كُرةً يا مولاي. سَألهُ الملكُ: ولِمَ اخترعتَها؟ أجاب: اخترعتُها كَيْ يَلعبَ بها الأطفال. ورماها إلى الأرض فنطّت نطًّا عَجيباً، تعلو وتهبط. »نَهضَ رجلٌ ذو لحيةٍ بيضاءَ طويلةٍ، وصَاحَ بصَوتٍ مُتهدّجٍ غَاضبٍ: الدينُ يا مولاي في خَطر. وأشَارَ بسبّابتِه الى الكُرةِ صارخاً: «إبليسُ مُختبئٌ في جَوْفِها وهو الذي يُحرّكُها. فتعالتْ تَوًّا أصواتُ الوزراءِ والأعوانِ مُؤيّدةً، لاعنةً إبليسَ»، مُطالبةً بقطع رأس العالِم العجوز الذي تعاملَ مع إبليس.
صار صَوتُ ذاك الرجلِ ذي اللّحيةِ الطّويلةِ البيضاء، مُنذُ ذلك التاريخِ، سُنّةً فينا. صار صِراطَنا المُستقيمَ. وتعالتْ من حولنا الأصواتُ تَلعنُ إبليسَ، وتُكفّرُ العالِمَ أو الفنّانَ. وأحْرَقتِ الزبانيةُ الكتب. وَنَصبَ السَّدنةُ المَشانق. وجاءتْ حمّالاتُ الحَطبِ بِالحَطَب. وجاء أبو لهب. غداً يُضرمُ النارَ في الحَطب. غداً تَنقلبُ سَاحاتُ المَدينةِ مَحارقَ للزنادقة.
تَعالتِ الأصوات تُردّدُ، على منوال ذاك الرجلِ ذي اللحية الطويلة البيضاء، الدينُ يا مولاي في خَطر. أصواتُ الوزراءِ والأعوانِ. أصواتُ رجالٍ ذَوي لِحيّ طَويلةٍ بيضاءَ. أصْواتُ شُبانٍ ذويّ لِحيّ قصيرةٍ مُهذَّبة. أصْواتُ فتيان بلا لحيّ. أصواتُ نساء عليهنّ الحجاب. أصْواتُ نساء عليهنّ النقاب. أصْواتُ نساء بلا حجاب، بلا نقاب. أصواتٌ حرّرتها الثورة فتعالت بالتكفير.

أوهمونا أنّ الدينَ في خطر، حتى حرّمنا الاقتباس. أتعرفون ما الاقتباس؟ الاقتباس عند العرب أنْ تضمّن كلامَك كلاماً من القرآن أو الحديث دون أنْ تقولَ جاء في الآية الكريمة، أو في الحديث الشريف. أنْ تتكلّم وكأنّ الكلامَ لك. كأنْ تقول مثلاً: مات مولانا الملكُ، إنّا لله وإنّا إليه راجعون. أو كأنْ تقول: الرفق الرفق بالحيوان، دخلت امرأة النار في هرّة. وهلمَّ جرّا. فجملتُك الأولى ضَمّنْتَها شيئاً مِنَ القرآن. وجملتك الثانية ضَمّنْتَها شيئًا مِنَ الحديث. وكانت العربُ تقول: إذا ضَمّنتَ كلامك شيئاً مِنَ القرآن أو شيئاً مِنَ الحديث ازدانَ كلامُك. كان الاقتباسُ عندَهم زينةً للخطاب.
ثمّ كانت ألهاكُم التكاثر. مسرحيةٌ اقتَبستْ من القرآن عُنوانَها. تزيّنت بالاقتباس. فتعالت الأصواتُ تُردّد: الدينُ يا مولاي في خَطر. وعُدَّ الأمرُ تطاولاً على القرآن. وعُدَّ الأمرُ بِدعةً. وهو والله من فنون القول والكتابة في أمّة العرب والإسلام. وكان علماء العربية والإسلام يستعملون هذا الفنّ في القول والكتابة. فما الذي تغيّر؟ لماذا تعالت الأصوات تُكفّرُ؟ لماذا تعالت

الأصواتُ تَلعنُ إبليسَ، تظنّه هو الذي يُحرّكُ الفنّ. ولا إبليسَ. مُجرّدُ جهلٍ بفنون القول والكتابة. وإذا عمَّ الجهلُ رأينا في كلّ شيء خطراً على الدين. رأينا في كلّ شيء إبليسَ. ولا إبليس.
إذا تَعالت الأصواتُ تُردّد إنّ الدينَ في خطر، خاف الناسُ تلك الأصوات. خاف العلماءُ والفنّانون. خاف أشباهُ العلماء وأشباهُ الفنّانين. خافوا أنْ يُعرّضوا الدينَ للخطر. خافوا التكفير. خافوا من تُهمة العار. تُهمة التعامل مع إبليس. ولا إبليسَ.
وقد خاف ذاك المسرحيُّ الذي اقتبس العُنوانَ من الآية. تراجع. غيّر عُنوانَه. أعطى الأصواتَ التي ردّدت له إنّ الدين في خطر فُرصةً. ها هي تَعلو عليه وتَزْهو. تَراجعَ. لمْ يكن عريقاً في اقتباسه. لم يكنْ مُلمًّا بالمعرفة. لم يُجابه. خاف. أعطى الفرصة للأصوات لتعودَ غداً، إذا فَعلَ غيرُه مثل فعله، وتُردّد: إنّ الدين في خطر، فيخاف غيرُه ويرهب.

وقد أصدرت مؤسّسةُ المسرح الوطني التي أنتجتْ المسرحية، بياناً في الاعتذار. تراجعت. خافت. رغم أنّها مؤسّسةٌ وطنيّةٌ قَوّامةٌ على الإبداع والفنّ. سَمحت بأنْ تَعلوَ عليها وتَزهوَ مؤسّسةُ الذين نصّبوا أنفسهم قوّامين على الدين في ظلّ الجهل بالدين والاقتباس الذي كان من أسرار البلاغة. لِمَ لَمْ تُدافع المؤسّسةُ الوطنيّة عن فنّانها الذي اقتبس عنوانَه من الآية؟ لِمَ لَمْ تُدافع عن حُرّية الإبداع والاقتباس الذي هو سرٌّ من أسرار البلاغة. سرٌّ من أسرار المسرح، مُذْ كان المسرح؟

الآن، وقد بَعُدت الشقّة وتناسيْنا القضيّة التي صَارت ذكرى في انتظار أخرى تُشعلُ النارَ من جديد وتُحاكمُ الإبداعَ والفنَّ والعلمَ أو حتى شبه الإبداع والفنّ والعلم، نَسْألُ سُؤالَنا البريء، سؤالَنا البسيط: لِمَ لَمْ تتعالَ أصواتُ الذين نصّبوا أنفسهم قوّامين على الدين لتردّدَ إنّ الدينَ في خطر، لمّا نشر محمّد الطالبي كتابه الذي سمّاه: ليطمئنّ قلبي. أليست ليطمئنّ قلبي اقتباساً من القرآن؟ أليست شيئاً مِنْ آية؟ لِمَ لَمْ يُكفَّرْ؟ لِمَ لَمْ يُطْلَبْ منه سَحبَ العنوان؟

واسمحوا أنْ نَسْأل من جديد سُؤالَنا البريء، سؤالَنا البسيط: لِمَ لَمْ تَتعالَ أصواتُ الذين نصّبوا أنفسهم قوّامين على الدين لتُردّدَ إنّ الدينَ في خطر، لمّا استعملت مُؤسّسة بنكية تدّعي السبقَ إلى المالية الإسلامية آيةً في إشهار عمليّاتها البنكية. اقتبستْ تلك المؤسّسة البنكية شيئاً مِنْ القرآن، نفس ما اقتبس محمّد الطالبي، ليطمئنّ قلبي؟ لِمَ لَمْ تُكفّرْ؟ لِمَ لَمْ يُطْلَبْ منها سَحبَ الإشهار؟ ما الذي حماها؟ أهو ادّعاءُ السبقِ إلى المالية الإسلامية، ولا ماليةَ تختصُّ بالإسلام؟ مجرّد بنوك، مُجرّد مصارف، مُجرّد أرباح. اختلطت الآية في الإشهار بوَسَخ المال، ولم تُثر الجِدال، ولم تُرسَلْ لأصحابها سِهامُ التكفير.
إنَّ التكفيرَ لا يخضعُ إذنْ لقانون. مُجرّد تَطاولٍ على الفنّ. مجرّد تَطاولٍ على الإبداع. حتى إنْ كان الفنُّ فنًّا بسيطاً، وكان الإبداعُ إبداعاً بسيطاً.
أتاحت الثورةُ حُرّيةَ التعبير. مَزيّتها الكُبرى في البلاد. ذهبتْ حُرّيةُ التعبير في الناس مَذاهبَ. اتخذت مَناهجَ وفق الأهواء، وفق السُّبل. إنْ تجذُّراً في العصر وإنْ خارجَ الزمن. بلغ بَعضُها التكفيرَ من حيثُ لا ندري.

------------
* زكريا تامر، الخطر، ضمن المجموعة القصصية النمور في اليوم العاشر، دار الآداب، 1981.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115