عن أهمية قرطاج سيدة المتوسط

حدثني صديق من أيام الدراسة الثانوية بمعهد خزندار بباردو بالعاصمة التونسية انه كان في زيارة سياحية

الى مدينة برشلونة الكاتالونية و استقل سيارة تاكسي كانت تقودها امرأة، فبادرته بالسؤال عن موطنه، فرد بأنه تونسي من أرض الخضراء، فأجبته بما مفاده أنه في موطنه بما أن أجداده القرطاجيين هم من أسسوا هذه المدينة الخلابة وهي منسوبة الى عائلة بركا أي عائلة عبد ملقرط (أميلكار) و نجله حنبعل (هنيبعل كما يسمى في المشرق) و صهرهما صدربعل أو عزربعل العادل، و أن هؤلاء «البركيين» القرطاجيين أسسوا هناك، أي في شبه الجزيرة الإيبيرية مدنا أخرى على غرار قرطاجنة الإسبانية (كارتاخينا) و غيرها، وأن عبارة «الكاتالان» هي تحريف لكلمة ال»كارتاجان» أو القرطاجيين. وأخبرته ايضا أن مضيق جبل طارق كان يسمى مضيق ملقرت نسبة إلى قائدنا القرطاجي عبد ملقرت والد حنبعل و الذي حل بتلك الربوع غازيا قبل ميلاد المسيحو ناشرا للثقافة و الحضارة على غرار الإسكندر الأكبر في المشرق. فعزم هذا الصديق بعد العودة إلى تونس على التعمق في دراسة تاريخ بلاده بعد ان شعر بجهله أمام سائقة التاكسي الكاتالونية التي لقنته، بحسب تعبيره، درسا لن ينساه طيلة حياته دفعه إلى البحث في حضارة قرطاج لسبر أغوارها من خلال فهم أسباب قوتها وازدهارها و سر هزيمتها بعد قرون من الهيمنة ومقارعة الفرس في المشرق العربي و الإغريق في البحر الأبيض المتوسط وذلك قبل بروز الرومان كقوة متوسطية منافسة.

و في هذا الإطار أيضا اخبرتني صديقة أستاذة جامعية أنها كانت بدورها في زيارة إلى شبه الجزيرة الإيبيرية و امتطت أيضا سيارة تاكسي متوجهة إلى مكان عقد المؤتمر الذي كانت تشارك فيه، و كان الوقت مبكرا فطلبت من سائق سيارة الأجرة أن يأخذها إلى حيث يوجد تمثال كريستوف كولومب، مكتشف القارة الأمريكية، فعرض عليها السائق، و بما أنها تونسية سليلة القرطاجيين أن تزور تمثال صدربعل العادل حاكم قرطاجنة الإيبيرية و سليل عائلة البركيين الذي خلف عبد ملقرط (أميلكار) بعد أن غرق الأخير في أحد الأنهار الإيبيرية وهو ينقذ بعض جنده من الأسر. و بدورها شعرت محدثتي بالحرج رغم إلمامها بالإرث الحضاري الذي خلفه القرطاجيون في شبه الجزيرة الإيبيرية، و انبهرت بأهمية الزاد العلمي والمعرفي لسائقي التاكسي في هذا البلد الذي يقدم للزائرين منتوجا سياحيا متكاملا يساهم في الترويج له حتى سائقو سيارات الأجرة، و ذهبت باتجاه المقارنة بينهم و بيننا.

كما أخبرني أحد الثقاة من أبناء الجاليات التونسية في أوروبا عن قرية غاب عني إسمها تقع في شمال ايطاليا تعيش على ذكريات قائدنا القرطاجي التونسي حنبعل، حيث أنجز القائمون عليها في وقت ما نصبا تذكاريا يخلد مروره من ربوعها و نشره للحضارة هناك. فتحولت القرية مع الوقت إلى مزار يحج إليه العالم ليشاهد كيف مر حنبعل من هناك»مبشرا بثقافة جديدة» حقيقية و حضارة كان يفتقدها سكان الآلب ومحيطه في إيطاليا و سويسرا و جنوب فرنسا ذلك الزمن، ويقتات أهل هذه القرية من بيع تماثيل حنبعل و جنوده و فيلته. في حين أن في قرطاج التونسية موطن هذا القائد الكبير لا شيء يشير إلى انتمائه إلى هذه الربوع حتى ان بعضنا يعتقد انه روماني وهو الذي أفنى حياته في حصار روما في عقر دارها من جهة و صد غزواتها عن موطنه من جهة أخرى.

من منا يعرف قصة الفداء للأخوين فيلن اللذين طلب منهما أن يخرجا من قرطاج و يسارعا الخطى على الساحل البحري الشرقي لشمال إفريقيا لترسيم حدود قرطاج مع الإغريق الذين كانوا يسيطرون على الساحل المصري المتوسطي و الجزء الشرقي من ليبيا و أرسلوا بدورهم من يسارع الخطى بعد الإتفاق مع القرطاجيين على أن تكون نقطة اللقاء هي مكان ترسيم الحدود بين الطرفين. و كان القرطاجيان أسرع من منافسيهما و هو ما جعل الإغريق يرفضون النتيجة و يقترحون إما إعادة السباق أو القبول بترسيم الحدود عند نقطة الإلتقاء شريطة دفن الأخويين فيلن حيين في ذلك المكان ظنا منهما أنها سيرفضان، لكنهما قبلا و تم وأدهما حيين من أجل قرطاج و رسمت الحدود عند مدفنهما و نالت قرطاج المساحة الأكبر في الجزء الشمالي من القارة السمراء.

من منا يعرف مثلا كيف توفي عبد ملقرت وهو يضحي بحياته من أجل انقاذ جنوده في اسبانيا في ملحمة يمكن أن تستقي منها أجيالنا الجديدة معنى الفداء من أجل الوطن؟ أميلكار بالنسبة لشعبنا التونسي الأبي منطقة في قرطاج فيها شاطئ يسبحون فيه صيفا، و ماجون القرطاجي عالم الجينات و الزراعة الذي تدرس مدونته الى اليوم في ربوع أوروبا هو في مخيال التونسيين نوع من أنواع الخمور المحببة إليهم. من منا على دراية بتفاصيل رحلة حنون القرطاجي إلى ربوع القارة السمراء عبر المحيط الأطلسي و تأسيسه للمرافئ التجارية في ربوع إفريقيا التي استشعر القرطاجيون مبكرا أهميتها الإقتصادية و بأنها العمق الإستراتيجي لتونس اليوم؟ من منا بحث في تفاصيل رحلة عملاقون القرطاجي إلى بحر الشمال عبر المحيط الأطلسي و اللقاء الحضاري الذي جمع القرطاجيين بالشعوب السكندنافية و شعوب القارة العجوز المطلة على شمال المحيط الأطلسي و ازدهار تجارة القصدير بين الجانبين و أهميتها في ذلك العصر، و قصة النقود القرطاجية التي رسمت عليها خريطة تتضمن أرضا شاسعة وراء المحيط الأطلسي قبل أن يكتشف كريستوف كولومب الأمريكيتين و حديث الإغريق عن جزيرة كبيرة وراء هذا المحيط كانت مصدرا لثروة القرطاجيين؟ من منا يعرف أن حنبعل كان مصلحا و رجل دولة و مختصا في المالية و محاميا أمام الهيئات القضائية في جمهورية قرطاج، وأيضا قائدا عسكريا فذا أخذ الكثير من حب الوطن عن والده عبد ملقرط؟

يقول أحد المؤرخين واصفا تفاصيل عبور الآلب من قبل الجيش القرطاجي و قائده حنبعل: «لعل العمل العظيم الذي حققه حنبعل وأدهش العالم، وأصبح في أذهان القادة العسكريين من المعجزات كان اجتياز جبال الألب. يقول الكولونيل دودج الذي اهتم بالكتابة عن قيادات عسكرية بارزة في التاريخ، أنه حاول أن يدرس هذه المعجزة ليطّلع على تفاصيلها، فأحصى ثلاثمائة وخمسين كتاباً وضعت كلها لدرس الموضوع نفسه. ويقول والتر في كتابه: « تدمير قرطاج» أن العلماء والمؤرخين والاختصاصيين في الشؤون العسكرية، وضعوا أكثر من خمسمائة دراسة لتحديد الطرق التي اجتازها حنبعل. استمرت مناظراتهم حول هذا الموضوع واحدا وعشرين قرناً. وحتى الآن ليس هناك اتفاق بين المؤرخين على تفاصيل هذه الطرق وإن كانت الصورة العامة قد أصبحت واضحة إلى حد ما. الجدير بالذكر أن المؤرخين القدامى حتى من كان يكن له العداء، أجمعوا على إظهار إعجابهم، دون تحفظ، بعملية اجتياز الألب، فوصفوا بإسهاب الصعوبات الكبيرة التي ذللّها بحزمه وعزمه، والعواصف الثلجية الهائلة التي جابهها وانتصر عليها، وحوادث انهيار جبال من الجليد على جنوده دون أن تؤخره يوماً واحداً عن المسير، وغارات القبائل المتوحشة، والتيه في الطرق المجهولة، والتعرض للسقوط في المهاوي، من جراء السير على السفوح شديدة الانحدار. والأمر الذي يثير الدهشة والإعجاب لا يقتصر على أن حنبعل اجتاز الألب، بل أنه اجتازها بسرعة، واستطاع في الوقت عينه أن يحافط على جيشه، وأن يسيطر على عدد كبير من الفيلة التي اصطحبها معه وأن يقود رجاله إلى الهدف الأخير بقوة ودقة عجيبتين».

إن حجم الأمم لا يقاس بالمساحة ولا بعدد السكان بل بما بالإنجازات الحضارية للإنسانية جمعاء، فقرطاجنا، سيدة المتوسط صاحبة أول دستور في تاريخ البشرية بالمعنى الحقيقي للدساتير، وأول نظام ديمقراطي في حضارات الجنوب والذي أشاد به الفيلسوف أرسطو كانت محدودة في المساحة قبل أن تتوسع لتصل إلى خليج غينيا وتهيمن على شبه الجزيرة الإيبيرية وكريت وصقلية ومناطق من جنوب فرنسا. وفي هذا الإطار أستحضر قول أستاذ جامعي من الفاتيكان التقيته في مؤتمر بعاصمة كوريا الجنوبية سيول منذ سنتين قال لي ما مفاده أن صغر المساحة الذي ورثته تونس عن استعمارين تركي و فرنسي لم يقسم الأراضي بالعدل بينها و بين جيرانها ليس عائقا أمام تنميتها وأن سر نجاح تونس يكمن في قرطاج التي على التونسيين العودة إليها بحثا و تمحيصا لدراسة أسباب نهضتها للبناء عليها و محاكاتها، و أسباب فشلها و انهيارها في نهاية عهدها لتجنبها و الحيلولة دون تجددها، فالتاريخ برأيه يعيد نفسه لأن الجغرافيا واحدة لا تتغير و كذا أسس العلاقات الدولية المبنية على المنافسة و الهيمنة ناهيك عن الشخصية القاعدية لساكنة الأرض التي لا تتغير كثيرا في عمومها و عبر العصور. و تكمن أهمية قرطاج برأيه بأنها الإمبراطورية الوحيدة التي خضع لها التونسيون و كانت عاصمتها في ديارهم، لا في روما (الرومان) و لا في دمشق (الأمويون) و لا في بغداد (العباسيون) و لا حتى في القسطنطينية أو اسطنبول (البيزنطيون و العثمانيون). لقد كان التونسيون القدامى مع قرطاجهم هم أصحاب القرار السيادي الذي يخرج من ربوعهم لينفذ في أماكن متفرقة من البحر الأبيض المتوسط و محيطه وهذا أمر جدير بالإهتمام.

لقد ظلم العرب المسلمون قرطاج و اعتبروها أمة كافرة و تجاهلوا موروثها، و ظلمها الأمازيغ أيضا ليبرروا غدر ماسينيسا ملك نوميديا بها و تآمره عليها مع الرومان في أواخر عهدها. و تجاهلها الاستعمار الفرنسي الراغب في طمس هوية الشعب التونسي من أجل «فرنسته» فاعتبرها مشرقية دخيلة رغم أن لغتها البونية تختلف عن كنعانية المشرق وآلهتها تانيت هي لوبية من أعماق هذه الأرض المغاربية و تربتها الخصبة وكذا غالبية شعبها. قرطاج أيضا ظلمها الشعب التونسي الذي لا يهتم في عمومه بتاريخه رغم ان التاريخ تجربة إنسانية يمكن استخلاص العبر منها لبناء المستقبل. 

لقد كان الزعيم بورقيبة من القلائل الذين اهتموا بقرطاج التي تؤسس للذاتية التونسية، فقام سنة 1968 بزيارة لضريح حنبعل الواقع على ضفاف مضيق الدردنيل في تركيا ليجد الضريح في حالة مزرية ما جعله يعبرعن إستيائه إلى السّلطات التركية التي استجابت وأقامت ضريحا يليق بمقام حنبعل لا يزال قائما إلى اليوم. كما رغب بورقيبة في جلب رفات حنبعل إلى الخضراء لكنه اصطدم برفض الأتراك باعتبار أن القائد التونسي الفذ هو موروث عالمي يهم الإنسانية برمتها و ليس فقط التونسيين الورثاء الشرعيين لحضارة قرطاج، و يحدثنا بعض وزراء الزعيم التونسي عن بكائه وقتا طويلا أمام ضريح حنبعل وعن جلبه لتراب من هذا الضريح في قنينة وضعها بالقصر الرئاسي بقرطاج.
و من المؤرخين الذين اهتموا بقرطاج يمكن ذكر الدكتور محمد حسين فنطر الذي يعتبر رائد الاهتمام بهذه الحضارة كما يمكن ذكر المثقف التونسي عبد العزيز بلخوجة الذي أصدر سلسلة من المغامرات المصورة للأطفال عن حنبعل و قرطاج لينشا جيل تونسي على دراية بماضيه و لديه القدرة على استشراف المستقبل مستلهما من قرطاج أسباب قوتها في عصر ما من عصور حقبة ما قبل ميلاد المسيح، متجاوزا عوامل نكبتها في أواخر عهدها، لان التاريخ بالنهاية عبرة لمن يعتبر.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115