(خارج الاحزاب التقليدية :الحاكمة او المعارضة) مستفيدا من الازمة التي عصفت بها طيلة العقدين الاخيرين.
وكذلك مستفيدا من الفضاء الافتراضي ومن الاستثمار في الوسائط الافتراضية الحديثة ،وتمكن في ظرف وجيز من خلق ديناميكية سياسية جاذبة مكنته من تجاوز الوسائط التقليدية وفرضته على قائمة الاستطلاعات في مرحلة اولى الشيء الذي مكنه من كسب دعم العديد من اللوبيات المالية والاعلامية في مرحلة ثانية ، ديناميكية اوصلته الى سدة الحكم بعد الفوز في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية،حاملا معه مشروعا لتغيير فرنسا تقاسمه مع وجوه جديدة من المجتمع المدني ومن النخبة غير المتحزبة وغير المعروفة على الساحة السياسية ،اضافة الى العديد من الشخصيات السياسية المعروفة من اليمين واليسار . يحسب له تجديد النخبة السياسية في بلده.
ما تم في فرنسا بعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية هو بمثابة الزلزال الذي هز اركان منظومة سياسية باكملها ،دخلت بعدها فرنسا مرحلة جديدة من ادارة الحكم وبداية مسار سياسي قيد التشكل غير معلوم العواقب، وامام منظومة سياسية قديمة، عاجزة عن فهم ماحصل لها وماينتظرها فهي مازالت تحت وقع الصدمة .
• الفترة الاولى من حكم ماكرون :كل الاصلاحات وفي نفس الوقت.
لم يتاخر الرئيس الفرنسي في تنفيذ برنامجه الانتخابي نحو تغيير حقيقي لفرنسا ،ولم تتاخر حكومته في اعداد المشاريع القانونية حيث وضح الوجهة والعزيمة في التغيير حيث اطلق شعار : كل الاصلاحات وفي نفس الوقت .
فكانت الفترة الممتدة من اواخر سنة 2017 والنصف الاول من سنة 2018 بمثابة الاختبار الحقيقي لسياسة ماكرون الاصلاحية في مواجهة مع الحركات الاحتجاجية الاجتماعية المنظمة التي قادتها النقابات ، والتي تواصلت في بعض القطاعات لمدة ثلاثة اشهر وكان اشهرها اضرابات وتحركات قطاع النقل الحديدي.
صحيح ان ماكرون اصطدم باحتجاجات اجتماعية منظمة قوية وخاصة منها احتجاجات مارس 2018 التي استطاعت النقابات ان تحشد اكثر من ثلاث مائة الف متظاهر حسب تقرير الداخلية الفرنسية ولكن كانت اجابة الرئيس ماكرون :ان هذه التحركات الاجتماعية لن تغير سياسة حكومته،وانه مواصل لسياسته التغييرية.
وبذلك يكون ماكرون قد اسقط في اقل من سنتين المنظومة الحزبية التقليدية وصل الى الحكم ثم اضعف المنظومة الاحتجاجية المنظمة :النقابات وفرض الاصلاحات ولم يثنه عن ذلك الاف المحتجين المؤطرين والمنظمين ولم يستمع الى اصواتهم.
• الازمة مجددا بعد انهيار الوسائط السياسية وانسحاب الوسائط الاجتماعية .
تعيش فرنسا مجددا تحركا اجتماعيا متواصلا ولكنه من نوع جديد يتغذى من الاحتقان ومن الخوف ويتجذر من عدم مقدرة السلطة على فهمه والتعامل معه حيث تجاهلته في البداية ثم تعاطت معه امنيا بعد شيطنته كل ذلك بعد انهيار الوسائط السياسية وانسحاب الوسائط الاجتماعية.
• حركة السترات الصفراء :بدأت من حيث نجح ماكرون.
تتواصل حركة السترات الصفراء للاسبوع الخامس على التوالي ، ولعل أحد أهم أسباب ذلك أن المنظومة السياسية التقليدية انهارت مع الانتخابات الرئاسية لسنة 2017 وتركت فراغا .
فحركة السترات الصفراء تمثل شكلا جديدا وبديلا في طور التشكل مكان الاشكال التقليدية للحوار والفعل السياسي .
فهي اول حركة ذات طبيعة سياسية ولدت على شبكات ومنصات التواصل الاجتماعي ،فهي استنساخ من حيث الشكل والوسائل للحركة التي أنشأها ماكرون .
فاصبحت هذه المنصات فضاءا للحوار المكثف والعميق حول القضايا العاجلة والحارقة ،اضافة الى انها فضاء للتواصل .وعندما تجاهلت المؤسسات الرسمية ولم تفهم مايحصل داخل الفضاء الافتراضي تحول الحراك الى احتجاج داخل الجهات او في العاصمة باريس وبمرور الزمن عجزت الاطر المؤسساتية عن التواصل و عن احتواء الطلبات فتجذرت التحركات واصبحت اكثر عنفا وكان التعامل الامني وتاخر السياسي ولم تستطع تدخلات الوزير الاول ولا تدخلات رئيس الجمهورية تهدئة الاجواء وتواصلت الاحتجاجات اكثر عنفا،تعكس ازمة منظومة الحكم الديموقراطي في ظل غياب الوسائط السياسية والاجتماعية .
فرنسا تعيش لحظة تاريخية حرجة بامتياز عندما تكون السلطة الحاكمة غير قائمة على وسائط قادرة على تاطير المواطنين بشكل مباشر وانساني ومتواصل وحقيقي وبناء راي عام له وجود ميداني للتواصل والتاطير.
عندما تكون الاحتجاجات الاجتماعية غير منظمة وغير مؤطرة فان التحركات الميدانية الاحتجاجية تكون عرضة لانزلاقات عواقبها سيئة ومدمرة للسلطة والمجتمع. ظروف مثل هذه لا تولد الا مزيدا من الاحتجاج والعنف وبالنتيجة مزيدا من انعدام الثقة بين المواطن والمؤسسات.
فرنسا دخلت مسارا جديدا ،منظومة قديمة انهارت ومنظومة جديدة لم تنه تشكلها بعد ولا يمكن البقاء دون وسائط سياسية ووسائط اجتماعية لقيادة وادارة بلد مهما كان حجمه.
لا يمكن ادارة الحياة السياسية بمقولات مثالية كالديمقراطية المباشرة ولكن لابد من وسائط في ادارة الحياة السياسية سواء باصلاح الوسائط التقليدية وتحديثها بما يجددها ويجعلها قادرة على القيادة والتمثيل والتأطير أوبناء واستنباط وسائط سياسية واجتماعية جديدة . وان لم يحصل ذلك سيكون سببا في انهيار ماكرون بسرعة وصوله الى السلطة.
• تونس والدرس الفرنسي .
بعد ثورة 14 جانفي 2011 انهارت المنظومة السياسية القديمة ودخلت تونس مسار بناء منظومة سياسية ديموقراطية جديدة رسم ملامحها دستور الجمهورية الثانية رغم ما صاحب ذلك من ازمات وتاخر وانتكاسات.
تونس في المسار الصحيح ولكنه محفوف بالمخاطر والصعوبات ومهدد بشكل حقيقي وجدي وكل الاطراف بدون استثناء لها جزء من المسؤولية ولعل المسؤولية الاكبر لدى المنتخبين والمعنيين قبل غيرهم بالالتزام بالدستور وقيم الجمهورية وحماية مؤسسات الدولة من التجاذبات وتقديم المصلحة العامة عن الخاصة وضبط النفس من هواها ونكران الذات.
ان عدم استكمال كل المؤسسات الدستورية رغم مرور اربع سنوات على انتخابات 2014 يعطل ويضعف المنظومة السياسية الجديدة ويزيد من تعقد وتواصل الازمة السياسية وعدم الاستقرار السياسي وتاخر انجاز الاصلاحات الاقتصادية والاجتماعية .
وما صاحب ذلك من تلوث الحياة السياسية بعدة امراض (الفساد.السياحة الحزبية.الشعبوية.عدم الكفاءة . السب والشتم.الكذب. غياب القيم النبيلة).
وتزامن ذلك مع الحملة المتواصلة في شيطنة الاحزاب والسياسيين والمنظمات الاجتماعية والنخبة والاعلام كل ذلك في ظل تنامي الاحتقان الاجتماعي وتواصل تدهور المقدرة الشرائية .
كل ما تقدم ينقص من ثقة الشعب في النخبة والاحزاب والمنظمات ويزيد من حالة العزوف وضعف الانخراط في العملية الانتخابية .
ان ماتشهده البلاد من تنامي ظاهرة الاحتجاجات الاجتماعية الجماعية غير المنظمة مقلق وخطير خاصة اذا عرفنا تطورها وحدتها مع مرور الزمن اذ وصل المعدل الشهري لسنة 2018 الى حوالي 800 احتجاج جماعي غير منظم بعما كان حوالي النصف سنة 2015 .
• دعوة للجميع
لا بد من صحوة ضمير وعودة الوعي الى النخبة التونسية مهما كان مجالها : سواء في الجانب السياسي او الاقتصادي او الاجتماعي او التعليمي او الاعلامي او الثقافي أو ....
لا بد من وقفة «تأمل» ولابد من النقد الذاتي لكل النخبة ،يقع فيه تجاوز الاخطاء والنقائص والارتقاء بمستوى النقاش والقدرات والتشبع بالقيم والمبادئ والاخلاق العالية ،والقطع مع الاساليب الهابطة والسلوكيات الفاسدة .
تونس لها الحق في نخبة جديدة واعية بمشاكل الحاضر متجذرة في تاريخها منفتحة على العالم ،حالمة ومتشبعة بمشروع تغييري لهذه البلاد وفق رؤية مستقبلية وخطة واضحة .
نخبة جديدة قادرة على ان تعيد للمجتمع المنظم (عبر وسائطه السياسية والاجتماعية والثقافية والمؤسساتية ) القه وجاذبيته ومقدرته على الابداع والتجديد والتاطير حيث تكون جاذبة للشباب والكفاءات وطاردة للانتهازيين والوصوليين ،حتى لا نكون شهودا على مواجهة لا نعرف نتائجها بين مجتمع منظم ومجتمع غير منظم : مجتمع منظم مأزوم ومتأزم نخبه متناحرة و طارد للكفاءات والشباب وقاتل للاحلام ،عاجز عن التواصل مع مجتمع غير منظم ممتلئ بالطاقة يريد ان يعيش بحرية وبكرامة فاقد للثقة وسائس من نخبته.