سُررتَ لما ترى فيها من متجوّلين كُثرٍ، نساءً ورجالاً، شباباً وكهولاً. وإذْ سُررْتَ أيّمَا سرور قلتَ: إنّ الثقافةَ بخير. وها أن الجمهورُ يؤمّ فضاءات الثقافة، فمرحباً بالجمهور.
وإذا واصلتَ التجوال في مدينة الثقافة والسرورُ يغمرك غمراً، انتبهتَ إلى أنّ الحركةَ التي لا تتوقّف، والدخولَ والخروجَ، مأتاهما جميعاً موظّفون في إدارات الثقافة، وعمّالٌ في تلكم الإدارات. وانتبهتَ إلى أنّ المتجوّلين الكُثرَ، نساءً ورجالاً، شباباً وكهولاً، موظّفون في إدارات الثقافة، وعمّالٌ في تلكم الإدارات.
وإذا انتبهتَ إلى ذلك تساءلتَ: ماذا يفعلون في مدينة الثقافة؟
وإذا تساءلتَ علمتَ أنّهم يعملون في إدارات الثقافة التي انتقلت إلى مدينة الثقافة واتّخذت فيها مكاتب وقاعات للاجتماعات وقاعات للانتظار وقاعات للجلوس والراحة. فإدارات الثقافة، كما تعلم، كانت تُثقل كاهل وزارة الشؤون الثقافية التي كانت تفتقر إلى بنايات وفضاءات تصلح للخدمة فكانت تكتري لتلك الإدارات ما يلزمها من بنايات وفضاءات. وكثيراً ما كانت تلك البناياتُ وتلك الفضاءاتُ المكتراة لا توفّر كلّ أسباب الراحة للموظّفين والعمّال، ولا توفّر كلّ ظروف العمل التي تشجّع على العمل. فكان عمل الإدارات رديئاً سيّئًا، حسب وجهات نظر المثقّفين الذين لهم علاقة بإدارات الثقافة بسبب الدعم أو شراء العروض أو طلب الإعانات لِعَوَزٍ أو من غير عَوَزٍ. وكان عمل الإدارات رديئاً سيّئًا، حسب وجهات نظر الملاحظين والصحفيين الذين تربطهم علاقاتٌ بأولئك المثقّفين الذين ذكرناهم سابقاً.
لذلك جاءت مدينةُ الثقافة لتوفّر لإطارات الإدارات وموظّفيها وعمّالها أحسن الفضاءات وأجملَها، في شارع من أجمل الشوارع في العاصمة. فحُلّت إلى الأبد مشكلةُ الفضاء الذي لا يصلح للخدمة وتوفّرت كلّ ظروف النجاح. فهنيئاً للمثقّفين بما سيجدون من إطارات الإدارات وموظّفيها وعمّالها من حُسن الاستقبال وحسن الخدمة في الآجال.
وجاءت مدينة الثقافة كذلك لتُخلّصَ وزارةَ الشؤون الثقافية من العبْء الذي كانت تتحمّله بسبب التكاليف الفادحة لكراء فضاءات لا تصلح للخدمة. فهنيئاً للمثّقفين بما وفّرت الوزارة من مال سيعود بالنفع على الثقافة، تشجيعاً ودعماً وشراءً وإعانات بلا عدّ.
كلّ وزير مرّ بوزارة الشؤون الثقافية اشتكى من ضيق الحال. اشتكى من الميزانية الضحلة التي لم تبلغ قطُّ الواحد بالمائة من ميزانية الدولة. اشتكى من أنّ صرف الميزانية يتمّ في الأجور والكراء. واليوم وفّرت الوزارة للمثقّفين مصاريف الكراء، فهل من سبيل إلى وقف الأجور يا تُرى، وتمكين المثقّفين من مال لا حصر له ولا عدّ؟
إنّ المثقّفَ لَحالمٌ بالطبع.
وبينما كان المثقّفُ حالماً كما ترى، وَصَلَهُ صوتُ الإطار الكبير في مدينة [إدارات] الثقافة يقول: إنّ هذه المدينةَ لَمَكسبٌ عظيم. إنّ هذه المدينةَ لَها عَليْنا حقٌّ كبير. عَليْنا أنْ نُحافظَ عليها. عَليْنا أنْ نرعاها. عَليْنا أنْ نصونَها. عَليْنا أنْ نصونَ حدائقَها وفضاءاتها. عَليْنا أنْ نوفّرَ لها دون انقطاع ماءَها والضوء. عَليْنا أنْ نوفّرَ لإطاراتها والموظفين والعمّال كلّ أسباب الراحة والترف. عَليْنا أنْ نُمكّنَهم وأزواجَهم والعيال من الدعوات باستمرار لحضور العروض، وخاصّة الباهظة الثمن. عَليْنا أنْ نتفانى في خدمتها بكلّ ضمير، بكلّ فنّ. وهذا كلّه له ثمن. يفوق بكثير ما كانت تضعُ الوزارةُ من مال لاكتراء بعض الحوانيت للعمل.
انتابَ المثقّفَ الحالمَ بالطبع كابوسٌ. أصابَهُ الإعياء. لَعَنَ مدينةَ الثقافة، قال: متى يا تُرى نخلص من الأجور والكراء والإنفاق على مدينة الثقافة الغرّاء؟