مسرحية «غصة عبور» لمحمد العامري: حديث الشتات موجع وصرخة المهجري قاتلة

ظلم في كل مكان، وجيعة أينما وليت وجهك، الم الشتات والضياع، إحساس بالغربة والاغتراب، موجع هو إحساس «اللاشي» حين تُمسخُ انسانيتك،

وتتيه ملامحك ويتنكر لك «الهنا» و «الهناكّ» حينها تكون الوجيعة وحدها رفيقتك، حينها يتخلى عنك ظلك الذي لازمك منذ البدء،ـ عن الم التشتت عن ظلم الحروب و قتامة المنافي اخذ المخرج محمد العامري جمهوره ليعيش ساعة زمن في رحلة الضياع، التي يعيشها كل المنفيين في «غصة العبور».
«غصة العبور» هو عنوان العرض المسرحي للكاتبة تغريد الداود وتمثيل إبراهيم سالم ورائد الدالاتي وحميد سمبيج وعبد الله مسعود وبدور واحمد أبو عرادة، و المهدي المنصوري و رائد المعيني ومحمد عادل وعبد العزيز الزرعوني ، غصة عبور نحو شمس تروّض الضوء، غصّة عبور تجاه مسارات نبتكرها واقواس قوس قزح نلونها بعشق جديد وانتباهات تعيد لنا ارواحنا المسلوبة كما يقول المخرج عن مسرحيته المقدمة من قبل مسرح الشارقة الوطني.

لهم الشتات والموت لنظام السيادة
صوت ازيز الرصاص، اطلاق نار يصم الاذان، ضوء احمر ينتشر في كامل الفضاء احمر حمرة الدم، أجساد او شخصيات مرمية فوق الجسر، بعضهم جالس واخر في حال بين الجلوس والوقوف، هم «اللاشيء» هم ينتظرون دورهم للعبور، وجدوا انفسهم «مرفوضين» من «الهنا»، و مطرودين من «الهناك» ويبحثون عن طريق الخلاص، ملابسهم توزعت الوانها بين الرمادي لون العدم والأسود رمز الموت، فقط رجل المرور يلبس الأخضر العسكري، سواد لون الملابس واللون الأحمر فوق الجسد شكلا لوحة الموت بامتياز.

احداث الحكاية تدورفوق جسر عبور بين منطقتين دون اسم قد يكون الحد بين العراق والأردن، او الحد بين سوريا ولبنان، او فلسطين والأردن ، جسر يكون فيه رجل المرور هو سيد المكان والزمان له السلطة الكاملة ليقرر من سيعبر، له السلطة المطلقة ليتحكم في أرواح العباد فهم بالنسبة له مجرد ارقام او أجساد يمكن رميها بالبحر او قتلها متى أراد ذلك لأنه لا وطن لهم، فمن سيكتب وجيعتهم، من سيرسم صرخاتهم، من سينقل حاجتهم لبعض الدفء ومن يشعر بالمهم المتواصل؟ من يرى معاناتهم، من سيشعر ببعض من الم الفراق والشتات؟ لا احد اذن له الحق في تقرير مصيرهم حسب هواه ومزاجه.

هم أربعة أجساد، جمعهم الشتات على الجسر يرغبون في الهروب والذهاب الى الجهة الأخرى، هم أربعة امرأة وثلاثة رجال لكل حكايته المختلفة، فرقتهم المنافي وجمعهم الشتات، فرقهم الوطن وجمعهم جسر العبور، اربعتهم يمثلون الكرامة والذاكرة و الشباب والفكر، لكل حكايته وسره ولكن وجيعتهم واحدة فأربعتهم شرب السمّ الزّعاف للاغتراب والشتات، هم أجساد دون عناوين كما النقطة التي قد تسقط سهوا عن النص فلا تثير انتباه القارئ، ففي البدء كانت هناك قصة شأنها شأن بقية القصص ثم سقطت نقطة فلم يبال بها أحد فالنقطة كانت دائما أصغر من ان تثير الاهتمام سواء كانت نقطة حبر او نقطة عرق او حتى نقطة دم» على حد تعبير كاتبة النص تغريد الداود وهم على الركح نقطة من بحر الاف المهجّرين في المخيمات، مهجرين هربوا من اوطانهم بسبب الحرب والتعذيب، على الركح نجد الفلسطيني، المهجّر منذ 1984، نجد السوري الذي رمى بنفسه الى البحر فالموت بحرا اجمل من الموت برصاص أخيه السوري، على الركح نجد العراقي الذي حمل السلاح ضد أخيه العراقي لاختلاف طائفي، حرب هنا وهناك ، حركاتهم واضطراباتهم ربما هي انعكاس للقطيعة والوجيعة التي وضع فيها مواطنو الكويت في حرب الخليج الأولى، حرب أبعدت الأخ عن اخيه بسبب السياسة، فهذا عويل وهناك صراخ، فاين الانسان؟ الانسان نجده على الركح مشتت الفكر وممزق الهوى والانتماء يبحث عن «نومة في حضن وطني» كما يقول عماد احد شخصيات العمل.
عن الشتات تحدثت مسرحية «غصة عبور» عن وجيعة العبور من مكان الى اخر نسج المخرج محمد العامري تقاسيم حكاياته، وعلى الركح تميز الممثلين في تقديم وجيعة المغتربين والمرهقين،

ابشر...فأنت لاجئ
الى كل المنفيين، الى سكان المخيمات، الى من قرصهم البرد وازعجهم الجوع وماتوا الاف المرات وهم يتمنون معانقة تراب الوطن، الى كل المعذبين قدمت مجموعة «غصة عبور» عملهاّ، هم أربعة شخوص، أجساد دون هوية، اولهم طفل في عمر المراهقة فقد امه بعد «ان اغتصبها الوحوش» وكان حارس المعبر خير مواس لمأساته فأهداه مسدسا ليصبح قاتلا، والأخر رجل اشيب دفع سنوات شبابه في الغربة بعد هروبه من بلده بسبب الحروب وها هو الان يريد العودة لاحتضان ما بقي من العمر في ترابه، والثالث شاعر عشق الكلمات وكتب اجمل القصائد الوطنية، عذّب في وطنه فتركه وهاجر والان يريد العودة ليكمل الرحلة «وينام بسلام في حضن الوطن والرابعة امرأة واربعتهم يبحث عن وطن.
على الركح طرحوا سؤال من يرغب لنفسه في ان يكون «لا شيء» ؟ من يريد ان يكون انسانا ممسوخا انسان دون هوية او وطن، جميعهم لا يعرف اخر الممر فقط يعنيهم الهروب من هذا الجحيم ربما الى جحيم اشد قتامة وسوداوية، فان كان الهنا مظلما بسبب أبناء الوطن فربما الهناك اشد ظلمة وقساوة، شتاتهم جسد في دوران الجسر المتحرك، مسخ نراه من خلال «الظل» فلكل شخصية ظلها الذي يشبهها ولكنه مشوه وكانه تجسيد لندبة في الروح لا تشفى ندبة كما « لم يعد هناك لون ابيض فلون الدم يستبيح كل مكان « كما تقول احدى الشخصيات في المسرحية.

داعش...الكابوس الأسود
للعبة الضوء في «غصة العبور» حضورها المميز، الأحمر كما الدم و الأصفر كما العدم، اتحدا ليشكلا فسيفساء ضوئية قاتمة، الجسر يدور كما الأرض لا يهادن ولا يتوقف، الألوان جميعها قاتمة كلها عنوان للمأساة، حركات الممثلين المثقلة والمضطربة وكأنها خطوات لاجئين حقيقيين.
«غصّة عبور» جسّد غصة المهرجين والمشتتين ونقل رغبة الانسان الأبدية في الخصام والاقتتال فبعد مقتل «رجل المرور» نجد الشخوص الأربعة قد دخلوا في خصام عن الأولوية في العبور، قتلوا «الدكتاتور» وازاحوه ليختصموا فيما بينهم ويقتتلون كما حدث في دول عربية كثيرة.
على الركح الكثير من النقد للفرقة بين أبناء الوطن الواحد، نقد لظاهرة الانانية والتفكير في الذات على حساب مصلحة الوطن.

في «غصة عبور» رابع الشخصيات امرأة عشقت شابا، هربت معه الى مملكته التي صورها لها جنّة فوجدت نفسها في مملكة هو اميرها وجيشه اسود هوايته التقتيل والذبح، امٍارة داعشية وحبيبها الأمير، هربت من «جنته المزعومة» اختارت نفسها ومواقفها على حبها، هربت من داعش وفي بطنها جنين تراه نطيفا سوداء او وجيعة وجب التخلص منها، فكرة داعش نجدها في العرض في مشهدين اول في حديث المرأة عن والد جنينها، والثاني في مشهد الاقتتال فحينما ينهمك أبناء البلد الواحد في التقاتل يمر رجل يلبس السواد بالكامل كما الغراب هو إحالة الى «الغربان السود» او داعش الكابوس الأسود وكأني بالمخرج ينبه الجمهور ان انتبهوا واتحدوا فداعش تهوى الفرقة والخصام.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115