مشرف جدا برحاب كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية التابعة لجامعة تونس، وذلك عن دار السويدي الثقافية بإمارة أبو ظبي ضمن سلسلة «ارتياد الآفاق»، بعد أن أحرز عمله الطريف والقيّم على جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة في دورتها الأولى المنعقدة في غضون السنة المنقضية 2015. وتتمحور الإشكالية التي تقود مختلف عروض هذا المؤلف فيما تبيّن لنا بعد تأمل مختلف الأبعاد المقترحة، حول مأزق التثاقف بين ضفتي المتوسط والتوسّل بالقراءة في مصادر تاريخ الصدمة التي خلفتها عمليات التهجير الممنهجة التي تعرضت لها الأقليتان الدينيتان اليهودية والإسلامية المقتلعتان من وطنهما بشبه الجزيرة الأيبيرية، والحفر في ذاكرة تطويفهما بين مواني البحر البيض المتوسط وتَبِعات تاريخ توطينهما بمجال المغارب خلال الفترة الفاصلة بين 1492 و 1756. تدور استفهامات البحث حول علاقة عمليات الطرد باستفحال الفكر العنصري الإقصائي وبمصاعب التهجير أو مساراته ومسالكه الكبرى. وبتعقّد عمليات التوطين وإدماج الوافدين ضمن النسيج المجتمعي بمجال المغارب وحدودها. وكذا بدور دينامكية الطرد في الدفع باتجاه تضامن العناصر المليّة المنتسبة إلى أصول جغرافية أيبيرية واحدة على غرار تضامن البرتغاليين اليهود أو «القُرنيين» مع المورسكيين تونسيا خلال القرن الثامن عشر؟ أما فيما يتصل بالمنهج فحسبنا أن نسجل توجّه الباحث الجليّ نحو الحفر في صراع الروايات التاريخية المتّصلة بحقيقة التهجير والإقصاء، ومعالجة مضامينها المتنافرة ومصالح واضعيها المتباعدة. فقد حاولت العروض استجلاب مختلف الروايات ومكافحتها قصد تمكين خطابات الأقليات المغلوبة من إدراج رواياتها ضمن السردية العامة للتاريخ المتوسطي المشترك. على أن تفكيك الخطاب لم يشكّل وحده لحمة الأطروحة، لأن الباحث أقدم ضمن سداها وبقدر لا يستهان به من التوفيق على القراءة بشكل مندمج في تاريخ الأقليتين المستهدفتين من السفارديم والمورسكيين تهجيرا وعبورا وتوطينا. وهو تحد لم يسبقه فيما نعلم غيره إلى رفعه. فقد اكتفت مختلف البحوث المعرفية المتخصصة بتناول واقع «الماران Marranes» أي اليهود المتنصرين أو «الموريسكيين» أي المسلمين المتنصرين بشكل آحادي، دون تجشم عناء المقارنة أو تتبع التفاصيل التاريخية المتّصلة بتوطين العناصر المهجرة المنتسبة لكلتا الأقليتين داخل مجال المغارب.
مسارات البحث
ينقسم الباب الأول إلى ثلاثة فصول قدمت المصادر والوثائق الأرشيفية وقرأت نقديا الدراسات التاريخية المتخصّصة في المبحثين السفارديمي و الموريسكي ومتابعة تطورها منذ بداية القرن الماضي وحتى يومنا هذا، مع التركيز على البحوث المُهتمة ببلاد المغارب، وتوضيح الأرضية المنهجية في اتصالها بتحليل الخطاب وتوضيح أساليب التواصل بين الفئات الاجتماعية والتعايش بين الأقليات المليّة والعرقية، فضلا عن التوقّف عند المدلول الدقيق لتسميتي السفارديم و الموريسكيين. في حين تتبع الباب الثاني رحلة الطرد، والمعنيين بها ومُمتلكات المهجرين من خلال الروايات الرسمية الأرشيفية وكتب الأخبار الإسبانية، ممحّصا الروايات المتّصلة بذات القضايا ضمن المؤلفات التي خلفها الرواة السفارديم، وهو ما تم تتبعه أيضا حال التوقّف عند الروايات الموريسكية. اعتمد الباب الثالث نفس المنهج القائم على تقديم الروايات المُختلفة، ونقصد الروايات الرسمية والسفارديمية والموريسكية، مع محاولة الوقوف وضمن المرويات المتصلة بالطرد عند المرحلة البينية أو ما أطلق عليه الباحث تسمية ما «بين عالمين»، من خلال دراسة المسارات المُتعددة للمهجرين في المستوى الجغرافي أو الثقافي- الديني. انتهت رحلة الطرد ضمن الباب الرابع بعملية التوطين بمجال المغارب، حيث تواصل التعويل على نفس الخطة ومقارنة مُختلف الروايات المُتعلقة بهذا الحدث، سواءً ضمن خطاب السلطة الحاكمة أو ضمن التمثّلات الواردة لدى مؤلفي الروايات السفارديمية والموريسكية، على أن يتم تقسيم عملية التوطين إلى مرحلتين أساسيتين هما: مرحلة «اللقاء الأول»، حال وصول المهجرين لبلاد المغارب، و»مرحلة ما بعد اللقاء» التي أثار صاحب هذا التمرين من خلالها كيفية تعامل السلطات الرسمية مع الوافدين أو الموطّنين الجدد، وعلاقة هؤلاء بالمجتمع، من خلال الحفر في علاقات الجماعات اليهودية المحليّة بالسفارديم، فضلا عن تملّي الروابط التي جمعت الأقليتين داخل مُجتمعات التوطين.
تتمثل محصلة هذا البحث وفيما يتصل بروايات الطرد في بحضور توجّه جليّ نحو استعظام ما حصل والإسهاب في ذكر انعكاساته السلبية على الطارد كما على المطرود، مع محاولة الزج بقرار الطرد ضمن رؤية قدرية ربطته بالإرادة الإلهية وأخرجته عن سياقه التاريخي كفعل بشري، ورد تلك الإرادة الخارقة وضمن الخطاب الرسمي إلى العقاب الإلهي حيث اعتبر الطرد تكفيرا من قبل السفارديم عن رفضهم اعتناق المسيحية وتم تمثّله إسبانيا كعقاب للموريسكيين لأنهم فشلوا في التحوّل إلى «كاثوليكيين صادقين». تماهت الروايات الخاصة بالأقليتين مع نفس هذا التوجه الأسطوري المتسربل برداء المشيئة السماوية عبر مفهومي «التطهّر من الإثم» في حق الأقليات اليهودية أو»المعجزة الإلهية» التي فرّجت عن المسلمين بالرحيل بعد الشدة، والتي كرستها عيشة المهانة والذل التي قاسوها أيام وجودهم بـ»بلاد الكفر». أما بخصوص معالجة الروايات المتّصلة بالتوطين مغربا، فيحسن التأكيد على محدودية المعطيات المتعلّقة بها ضمن الأرشيفات الرسمية الأيبيرية مقارنة بالتوسّع الذي صاحب خطاباتها التبّريرية بخصوص الطرد. ويُمكن تفسير ذلك بمحورية حدث التهجير بالنسبة للمجتمع الطارد، وما خلقهُ موضوعيا من صعوبات اقتصادية وسجال ديني في آن. وفي المُقابل فإن ندرة الأخبار الرسمية المتّصلة بالتوطين ضمن مجتمعات الاستقبال وندرة الروايات المحلية المرتبطة بحلول السفارديم مغربا، كما تهميش الجماعة الموريسكية في الروايات المحلية بالرغم من محورية تأثيرها، تطرح جميعها العديد من التساؤلات. فقد يعود ذلك إلى ندرة الروايات المحلية الموضوعة خلال القرن السابع عشر، تلك التي اقتصرت تونسيا على المناقب التي حبّرها المنتصر ابن أبي لُحيّة القفصي في حق حامي المورسكيين أو «ملاكهم الحاضن» أبو الغيث القشاش. كما أن حقيقة توتّر العلاقات بين الوافدين الموريسكيين ومختلف فئات مجتمع الاستقبال قد شكّل سببا وجيها في تفسير التغاضي عن الأدوار التي لعبوها بل وتهميشها، وتحاشي التطرق للمنازلة المكتومة بين الموطّنين الجدد ومجتمع الاستقبال، مثلما توحي بذلك إيماءات الوزير السراج في مصنّف «الحلل السندسية...». ومهما كانت حقيقة الأسباب المتخفيّة وراء ذلك التحفّظ، فإن الرواة الموريسكيين قد اهتموا أكثر من نظرائهم السفارديم بالتدوين لمرحلة التوطين اعتبارا لمنطق حصول الفرج والالتحاق بـ»جنة الإسلام» بعد العيش في «جحيم الكفر».
قضية الهوية
أما فيما يتصل بمسارات المُهجرين فإن اختلاف السياسة الرسمية المتّبعة في التعامل مع من اختاروا الالتحاق بالديانة المسيحية قد اتسم بمنحى تفاضلي. فقد شكّل السفارديم الباقين أو العائدين ما يزيد عن ثلث الجماعة، في حين أن نسبة أولئك من بين المورسكيين لم تتجاوز 10 أو 15 %. ويحسن التنويه بهذا الصدد بسيطرة حوض البحر الأبيض المتوسط بضفتيه الشمالية و الجنوبية على مسارات المهجّرين، مع الاعتبار بالفارق بين الشتاتين السفارديمي والموريسكي، علما أن اختيار الجماعة الثانية قد انصب على الضفّة الجنوبية، لأن كل إقدام على التوطين شمالا من شأنه أن يطعن في دعاوى الانتساب إلى جمّاع المسلمين، مشكّكا في تمسّكهم بديانتهم الأولى. بقي أن نشدّد على أن ديناميكية الطرد كما حركية التوطين، قد تأسستا على التحويل الديني، ودارتا حول محور الهُـوية، فحتى وإن لم تكُن إسبانيا القرنين الخامس والسادس عشر مُختلفةً عن أجوارها الأوروبيين من حيث قلة الاعتبار بمدلول التعايش والدفع نحو الإقرار بفضائل التسامح، إلا أنها قد أبدت تعصبا للكاثوليكية وتمسكا بما سماه إدوارد غليسون Edouard Glissant بـ«جدار الهوية Le Mur de l’identité»، اعتبارا للخصوصية التاريخية لمسار تشكّل الدولة الإسبانية الحديثة بالمقارنة مع بقية الدول الأوروبية الأخرى. فهوية الأسبان هي وفي جزء هام منها نتاج لما وسم بـ«حروب الاسترداد»، فقد تشكل الوعي بالانتساب في علاقة عضويّة بالصراع الدائر حول مسألة حضور الإسلام والمسلمين من عدمه، وهو ما ترتب عنه تأصيل للنوازع الطُهرية المتطرّفة التي ادعت نقاء موهوما ورفضت الدخيل بمدلوله العرقي أو المليّ، الشيء الذي حوّل الأقليتين اليهودية والمسلمة إلى رقعة تصويب وأضحية للتكفير على الذنب بامتياز.
الهوية الأيبيرية والمجال الجديد
وفي المقابل فإن دواعي الإنصاف تدعونا إلى الاعتراف بأن مُجتمعات التوطين مغربا لم تُختَزل هويتها في الانتماء إلى الدين الإسلامي، اعتبار للمكانة التي احتلها أهل الكتاب ضمن التشريعات الإسلامية، فضلا عن حقيقة انفتاح تلك المُجتمعات منذ انطلاق الفترة الحديثة على البحر الأبيض المُتوسط سواء من خلال الأنشطة التجارية أو القرصنية. على أن دينامكية الصهر والتوطين لا تنفي مُحافظة المجموعات الوافدة على جوانب من خصوصيتها الثقافية، حيث تأكد وعي المجموعتين وفي خضم هذا المسار بتميزهما عن المُجتمع الطارد رغم اشتراكهما معهُ في الثقافة، وعن مُجتمعات الاستقبال حتى وإن اشتركت معها في نفس الديانة. «فمغربة» الموريسكيين أو «تَوْنَسَتِهم» لا تنفي حضور حراك عكسي اغتنت من خلاله مجتمعات المغارب بالخصوصيات الثقافية للجماعات الوافدة، سواء من حيث العادات أو المأكل والملبس. كما أن عملية التوطين تلك، لم تعدم حضور التضامن بين......