إن أكثر الناس قد يصبرون على فعل الطاعات، لكنهم لا يصبرون عن كثير من المعاصي والسيئات، ومن هنا تأتي أهمية الصبر وفضائله وثماره بالنسبة للمسلم، قال الله تعالى وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ» (النحل:96).
إن الفلاح في الدنيا والآخرة لا يكون إلا بالصبر من أجل الله، ورجاء ثوابه، والخوف من عقابه، يقول -سبحانه وتعالى-: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (فصلت:35).
إن الصبر عن المعصية ثمرة التقوى، قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: ليس تقوى الله بصيام النهار ولا بقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك، ولكن تقوى الله ترك ما حرّم، وأداء ما افترض الله، فمَن رُزق بعد ذلك خيرا فهو من خير إلى خير.
ومن أنواع الصبرِ الصبرُ على الخَلْق، وتحمُّل أذاهم، ومسامحتهم، والعفو عن زلاتهم، عَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: «الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَخَالِطُ النَّاسَ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، أَعْظَمُ أَجْراً مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لاَ يُخَالِطُّ النَّاسَ، وَلا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ» رواه ابن ماجه.
ومن أنواع الصبر الصبر على أقدار الله، والرضا بها، واليقين بأن ما كتبه الله وقضاه على العباد كائن لا محالة، وأنه نوع من الابتلاء للعبد؛ لذا فإن عليه أن يصبر لينال الأجر من ربه، ولترفع درجته يوم القيامة في جنةٍ عرضها السموات والأرض.
ثم إن الساخط على ربه لا يجني من ذلك شيئاً! قال التابعي عبد الله بن محمد: خرجتُ إلى ساحل البحر مرابطا، فلما انتهيت إلى الساحل فإذا أنا بخيمة فيها رجل قد ذهبت يداه ورجلاه، وثقل سمعه وبصره، وما له من جارحة تنفعه إلا لسانُه، وهو يقول: اللهم أوزعني أن أحمدك حمدا أكافئ به شكر نعمتك التي أنعمت بها عليّ، وفضلتني على كثير ممن خلقت تفضيلا، فقلت: والله! لآتين هذا الرجل، ولَأسألنه أنّى له هذا الكلام!.
قال: فأتيت الرجل فسلمت عليه فقلت: سمعتك وأنت تدعو بهذا الدعاء، فأيّ نعمة من نعم الله عليك تحمده عليها؟! قال: أو ما ترى ما صنع ربي! والله لو أرسل السماء عليَّ نارا فأحرقتني، وأمر الجبال فدمّرتني، وأمر البحار فأغرقتني، وأمر الأرض فبلعتني، ما ازددت لربى إلا شكرا؛ لما أنعم علي من لساني هذا، ولكن -يا عبد الله- فإن لي إليك حاجة، لقد كان معي ابن لي يتعاهدني في وقت صلاتي فيوضّيني، وإذا جعت أطعمني، وإذا عطشت سقاني، ولقد فقدته منذ ثلاثة أيام، فتحسَّسْهُ لي رحمك الله.
قال عبد الله بن محمد: مضيت غير بعيد حتى صرت بين كثبان من الرمل، فإذا أنا بالغلام قد افترسه سبع وأكل لحمه، فاسترجعت وقلت: بأي شيء أخبر صاحبنا؟ فقلت له: إن نبي الله أيوب -عليه السلام- قد ابتلاه ربه بماله وآله وولده؟ قال: بلى، قلت: فكيف وجده؟ قال: وجده صابرا شاكرا حامدا، قلت له: إن الغلام الذي أرسلتني في طلبه وجدته بين كثبان الرمل، وقد افترسه سبع فأكل لحمه؛ فأعْظَمَ الله لك الأجر، وألْهَمَكَ الصبر، فقال الرجل: الحمد لله الذي لم يخلق من ذريتي خلقا يعصيه فيعذبه بالنار.
ثم استرجع وشهق شهقة فمات. فقلت: إنا لله وانا اليه راجعون، وقعدت عند رأسه باكيا، فبينما أنا قاعد إذ جاء أربعة رجال فقالوا: يا عبد الله، ما حالك؟ وما قصتك؟ فقصصت عليهم قصتي وقصته، فقالوا لي: اكشف لنا عن وجهه؛ فعسى أن نعرفه. فكشفت عن وجهه، فانكبّ القوم عليه يقبلون عينيه مرة ويديه أخرى، ويقولون: لطالما غضَّ بصره عن محارم الله، ولطالما كان ساجدا والناس نيام، فقلت: مَن هذا؟ يرحمكم الله! فقالوا: هذا أبو قلابة الجرمي صاحب ابن عباس، لقد كان شديد الحب لله وللنبي -صلى الله عليه وسلم-.
قال: فغسّلناه، وكفنّاه بأثواب كانت معنا، وصلينا عليه ودفناه، فانصرف القوم، وانصرفت إلى رباطي، فلما أن جنّ عليّ الليل وضعت رأسي، فرأيته فيما يرى النائم في روضة من رياض الجنة، وعليه حلتان من حلل الجنة، وهو يتلو الوحي: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (الرعد:24)، فقلت: ألستَ بصاحبي؟ قال: بلى، قلت: أنّى لك هذا؟ قال: إن لله درجات لا تنال إلا بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، مع خشية الله -عز وجل- في السر والعلانية.