وأوجب -سبحانه- للصابرين محبته، فقال -تعالى-: وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (آل عمران:146)، و قال -صلى الله عليه وسلم-: «وما أعطي أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر» رواه البخاري.
وأعظم أنواع الصبرِ الصبرُ على الطاعة، قال -تعالى-: وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ (البقرة: 45)، وروى مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط».
إن الصبر على الطاعة يجلب للعبد الراحة والطمأنينة والسعادة، ويكتب له القبول عند الله. خرَجَ الإمام أحمد بن حنبل في سفر فآواه المبيت إلى قرية من القرى فذهب إلى المسجد فصلى، ثم أراد أن ينام حتى الصباح؛ لكن قيّم المسجد رفض ذلك وهو لا يعرفه، فذهب الإمام لينام على باب المسجد عند عتباته، لكن قيم المسجد رفض ذلك ودفعه دفعاً شديداً حتى أوقعه على قارعة الطريق، فرآه خبازٌ من دكانه بجانب الطريق، فذهب إليه، وقال له: يا شيخ، لما لا تتفضل عندي، وتنام في دكاني، وأطعمك من طعامي؟.
ذهب الإمام أحمد معه، وفي الليل رأى ذلك الخباز يعجن الطحين، ولا يرفع عجينة أو يقلبها إلا ويقول: أستغفِر الله. فاندهش الأمام أحمد من تقوى الرجل، وصبره وطاعته لربه طوال الليل، فقال: يا هذا، منذ متى وأنت تذكر الله هكذا؟ قال: منذ زمن طويل. قال الأمام: هل وجدت لاستغفارك هذا ثمرة؟ قال الرجل: نعم والله، ما دعوتُ الله بدعاءٍ إلا استجاب الله لي، إلا دعاءً واحداً، قال: وما هو؟ قال: دعوت ربي أن يريني الإمام أحمد بن حنبل. قال: يا هذا، أنا أحمد بن حنبل، قد جرَّني الله إليك جَرَّاً.
لقد فهم الصحابة حقيقة هذا الدين، وصبروا وصابروا على الطاعة في رمضان وغيره، حتى قال على ابن أبي طالب -رضي الله عنه-: لقد رأيت أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، فما رأيت شيئاً يشبههم، كانوا يصبحون شُعثاً غُبراً صُفراً، بين أعينهم كأمثال رُكَب المعز من كثرة السجود، قد باتوا لله سُجَّداً وقياماً، يراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا طلع الفجر ذكروا الله.
كانوا إذا سمعوا آية من كتاب الله مادوا كما يميد الشجر في يوم ريح عاصف، وهطلت أعينهم بالدموع، والله! لَكأنّ القوم باتوا غافلين! قال تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (الأنفال:2).
لم يكتفوا بقيام الليل وصيام النهار، والعفة عن النظر إلى المحرمات، والاشتغال بالطاعات؛ بل نظروا إلى أعز ما يملكون، إلى أنفسهم التي بها قوام حياتهم، ثم قدموها في سبيل الله!.
ففي معركة بدر في شهر رمضان اشتدّ البلاء على المسلمين، إذ قد خرج المسلمون لا لأجل القتال وإنما خرجوا لأخذ قافلة لقريش كانت قادمة من الشام، ففوجئوا بأن القافلة قد فاتتهم، وأن قريشاً قد جاءت بجيشٍ من مكة كثيرِ العدد والعدة لحربهم.
فلما رأى الرسول -صلى الله عليه وسلم- ضعف أصحابه، وقلة عددهم، وضعف عتادهم؛ استغاث بربه، وأنزل به ضره ومسكنته، ثم خرج إلى أصحابه، فإذا هم قد لبسوا للحرب لَأْمَتَها، واصطفّوا للموت كأنما هم في صلاة، تركوا في المدينة أولادهم، وهجروا بيوتهم وأموالهم، شُعثاً رؤوسهم، غُبراً أقدامهم، ضعيفة عدتهم وعتادهم.
فلما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك صاح بهم وقال: «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض. والذي نفس محمد بيده! لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر، إلا أدخله الله الجنة»؛ فقاموا وقدموا للدين أغلى ما يملكون، فأعزهم الله ونصرهم ومكّن لهم في الأرض.
إذاً؛ رمضان يعلمنا الصبر على الطاعة حتى نلقى الله.