(2)
لقَد كانَ ثمة دائما «قَلقٌ في اُلْـحَضَارَةِ» وفْق عبارة سيغموند فرويد و»وعي بالانحِطاط «في كلّ أزْمَنة الحَضارات مَهْما سَكرت نشوةً تلك الحَضَارات وأسْكرت سواها بفكرة «التقدم», - مثلا - والترقّي و«الإخاء» و«الحرية» و«الديمقراطية» و«العَدل» وسَائر مُدونات اُلْـحُـقُوقِ. عنوان كتاب ميشال أونفري الأخير دال: «انحطاط أوروبا»... وعبارة : «القوانين وُضِعَتْ لـتُخْترق» مُعَبرة في هذا اُلْسياق بفِعل «جنون حقيقي» أو بلعِب دور المجنون.
«المجنون الحضاري» هنا أو هناك . وما أبلغ الحكمة السائدة «أعْمل فيها مجنون لتعيش ..».
(3)
لقد تساءل الفيلسوف الرائي والشاعر فريدريك نيتشة: « كيف يصبح المرء مجنونا حين لا يكون كذلك وحين لا يملك الشّجاعة للتظاهر بالجنون ؟» ليبقى السؤال معلقا وربما إلى الأبد... ولنمضى مع صاحب «زرادشت «- صديق الفجر والغسق» يُفهِموننا في أيامِنا هذه أنّ اُلْعبْقري يمتَلكُ بدَلاً منْ ذرّة من اُلْصواب ذرةً من اُلـْجنُون. كان الناس في الزمن الماضي أقْرب إلى اُلْفِكْرَةِ القائلة إنه حيثُ هُنَاكَ جُنونٌ هُناكَ أيْضا بعضُ اُلْعبقرية والحِكْمة , شيء ما «إلاهي»كما كانوا يتهامَسون في الآذان أو بالأحْرى كانوا يعبّرون عن فِكْرتهم بِوضوحٍ أكبر بقولهم : بِفِعْل اُلجنون أُغْدِقَتْ أعْظم اُلنّْعم على اُلْيونان ... حَسَب مَا كان يقُول أفلاطون معَ كُلّ البشريّة في الزّمَنِ القديم .فلْنتقدّم أيضا خُطوةً واحدة - يزيد نيتشة - كلّ أولئك المتفوّقين المدْفوعين بصُورة لا تُقاوم لتحْطيم نــَيْر أخْلاق مَا وإعلْان قوانينَ جَديدة لم يبْق عليهم أن يَفْعلوا, إذا لم يكونوا مـَجانين حقّا , غير أن يصْبحوا مـَجانين أو يتَظاهروا بالجُنون» . هكذا ورد في كتاب « الفجر » للفيلسوف - الشاعر «الميلوماني - عاشِق الموسيقى الأبدي .
(4)
فهل من حقي أنا - التونسي بالوراثة وشهادة الميلاد - أن أطالب الآن وهنا «بحقي في الجنُون» - سليل العبقرية وإن كانت «العبقرية» أكبر من حجمي وجرمي وحتى تاريخ سلالتي , أطالب بالمصَالحة الحضارية ولأول مرة في تاريخ الأمم , المصالحة بين «الحضارة العربية» و«الحضارة الفارسية» - مثلا - أنا عاشق الحضارتين... وأن يـَكُف المسلمون عن التفنن في صناعة واُصطناع « العداوة » بين «المسلمين والمسلمين» كما بين المسلمين وسواهم للتدرب على النسيان أو تناسي التاريخ الدّموي بين الشعوب والأمم إقتصادا في تبذير الأعْناقِ و الأرْواح والأرزاق. آه . آه تذكّرت «حذاء» أحلام مُسْتغانمي صديقتي الرائعة شخصا ونصّا بشهادتي الشخصية - التي اعتبرتني كِتابَةً كاتبا اُستثنائيا - هل تراني أطْلب ما لا يُطلب فأصُاب بالعَطَب كما حدث «للملْهوف» عشقا حين طلبَ حُبا جديدا..؟ فما الحكاية»؟
(5)
تقول صاحبة «الأسْود» الذي «يليق» بـِها دُون سِواها:
عندما تلْجأ إلى حُبّ جديد لتَنْسى حُبا كبيرا, توقّع ألاّ تجِدَ حُبا على مَقاسِك. سيكون مُوجعا كَحذاء جديدٍ, تُريده لأنه أنيقٌ وربما ثمينٌ .لأنّه يتماشَى مع بذْلتك. لكنّه لا يتماشى مع قَلْبك ولنْ تعْرف كيف تـَمشي به ستُقنعُ نفسَك لمدّةٍ قصيرة أو طويلة أنّك إنْ جاهَدْتَ قليلاً بإمْكانك اُنْتعَالَـه, ستدّعي أن الجُرح الذي يتْركه على قدَمك هو جُرح سطْحي , يمكِن معالجته بضمادة لاصقة. كلّ هذا صحيح .. لكنّك غالبًا ما لا تَسْتطيع أن تـَمْشي بهذا الحِذاء مَسافات طويلة . قدَمك لا تُريده لقَد أخَذت على حِذاء قَديم... مشيتَ به سنوات في طريق الحياة ..» .
(6)
آه قلت لي , « لقد تكسرت اُلنّْصال على اُلْنّصَال» ولم يعد في امكان الأيلام ايلام . أنا أريد «حبا حضاريا» جديداو متجدادا بين «الفرس» و«العرب» وكفانا من «الهرب» من مثل هذا الحُب . لا بدّ أن نمشى له وإن نحن ضربنا «الحذاء» الجديد .. وأدمانا السّعي أرجلا.. فلنذهب له مشيا على «الهُدب» ...من أجل منعطف حضاري جديد كلّ الجِدة . فليْس من اُلْتسرّع في أوان الآن الحضاري المطالبة المشتركة كوكبيا بتسريع التّاريخ الصّلْحي بين «الشعوب والأمم». ثمة أكثر من سَببٍ لجرعة من المثالية الحالمة. وإنْ أنا أعْرف أّنيَ سَوف أُهْـجَى بما هَجا به اُبن جَبر( 146هـ- 540م) الفَلسفة:
«قد ظهرتْ في عَصْرنا فِرقة - ظُهورها شُؤْمٌ على اُلْعَصْر
لا تقْتدي في اُلْدين إلاّ بما _ سنّ اُبن سينا وأبو نصْر
يا وِحْشة الإسْلام من فِرقة _ شاغلةٌ أنْفسها بالسّفْه
قدْ نبذَتْ دين اُلْهُدى خَلفها _ واُدّعَت اُلْـحِكْمة واُلْفَلْسَفة».
فهل ثمة « فِرْقة ناجيّةS من طوفان الكَراهية ...لفلاحة حدائق الصداقة
« الفارسية - العربية» في العالم .. ؟
(7)
« لا تنزعج لجُرْحِكَ وإلاّ كيفَ للنّور أنْ يتَسلّل إلى باطِنك «. هكذا قلتُ لي مَا قال جلال الدين الرومي لنفسه قَبْلَ قوله لسواه إذ كل يَكْتُب حِينَ يـَكْتب جُرحه الشّخْصي أو بعْض جُرحه.