ِألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله الحديد:16،
فلما سمعها قال: بلى يا رب! قد آن.
فرجع فآواه الليل إلى خربة، فإذا فيها قافلة، فقال بعضهم: نرحل. وقال بعضهم: حتى نصبح؛ فإن فضيلاً على الطريق يقطع علينا. قال: ففكرتُ وقلت: أنا أسعى بالليل في المعاصي، وقوم من المسلمين ها هنا يخافوني؟ وما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع، اللهم إني قد تبت إليك، وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام».
عن إبراهيم بن بشار قال: «قلت لإبراهيم بن أدهم: كيف كان بدء أمرك؟ قال: كان أولى بك أن تسأل عن غير هذا، فقلت له: أخبرني، لعل الله أن ينفعنا به يوماً، فقال: كان أبي من الملوك الموسرين، وحُبب إلينا الصيد، فركبت ذات مرة، فثار أرنب أو ثعلب، فحرّكت فرسي نحوه، فسمعت نداء من ورائي: ليس لذا خلقت، ولا بذا أمرت. فوقفت أنظر يمنة ويسرة، فلم أر أحداً، فقلت: لعن الله إبليس. ثم حرّكت فرسي، فأسمع نداء أقوى من الأول: يا إبراهيم! ليس لذا خلقت ولا بذا أمرت، فوقفت أنظر، فلا أرى أحداً، فقلت: لعن الله إبليس. فأسمع نداء من عند سرجي بذاك، فقلت: انتصحت انتصحت!! جاءني نذير ربي، والله لا عصيت الله بعد يومي ما عصمني الله. فرجعت إلى أهلي، فخليت فرسي ثم جئت إلى رعاة لأبي، فأخذت جبة كساء، وألقيت ثيابي إليهم، ثم أقبلت إلى العراق، فعملت بها أياماً، فلم يصْفُ لي منها الحلال، فقيل لي: عليك بالشام، ولم أزل هناك».
وكان بشر بن الحارث في زمن لهوه في داره، وعنده رفقاؤه يشربون ويطربون، فاجتاز بهم رجل من الصالحين، فدقّ الباب، فخرجت إليه جارية، فقال لها: «صاحب هذه الدار حر أو عبد؟»، فقالت: «بل حر»، فقال: «صدقت؛ لو كان عبداً لاستعمل أدب العبودية، وترك اللهو والطرب». فسمع بشر محاورتهما، فسارع إلى الباب حافياً حاسراً، وقد ولّى الرجل، فقال للجارية: «ويحك، من كلمك على الباب؟»، فأخبرته بما جرى، فقال: «أي ناحية أخذ هذا الرجل؟»، فقالت: «كذا»، فتبعه بشر حتى لحقه، فقال له: «أنت يا سيدي! وقفت بالباب وخاطبت الجارية؟»، قال: «نعم»، قال: أعد علي الكلام»، فأعاده، فمرّغ بشر خدّه على الأرض، وقال: «بل عبد! عبد!!»، ثم هام على وجهه حافياً حاسراً، حتى عُرف بالحفَّاء، فقيل له: «لم لا تلبس نعالاً؟»، قال: «لأني ما صالحني مولاي إلا وأنا حاف، فلا أزول عن هذه الحالة حتى الممات».