بأنّ الدولة غائبة تماما، أو لنقل أن منطق الدولة هو الغائب. بالرغم من ذلك، شخصيا، تفاجأت عندما وصلني نبأ مكتبة «جاريبالدي» في العاصمة، وما أدراك ما جاريبالي؟
مكتبة «جاريبالدي»، الحصن الأخير، القلعة الأخيرة، مركز الصمود الأخير، جدار الصدّ الأخير قبل السقوط النهائي لتونس. أتكون مجرّد مكتبة شبه عمومية بمثل هذه القيمة ؟ بل وأكثر. مكتبة « جاريبالدي « ملجأ للطلبة الباحثين في الأدب والفلسفة والثقافة الفرنسية
بالأخص، كانت بالنسبة لي و للكثير غيري مركز بحث وثقافة وتنقيب في المعرفة، وهي المكان الوحيد الذي تخسر فيه نقطة أو نقطتين من قوّة بصرك وأنت سعيد. مكتبة «جاريبالدي» ليست مجرّد مكتبة، هي معبد من معابد التنوير والحداثة والعقول المستبصرة، اِنّها مصنع لاِنتاج الباحثين والأدباء والفلاسفة والمثقفين وأصحاب الرؤى. «جاريبالدي»، ملجأ علماء المستقبل الذين لا ثروة لهم، ولايمكنهم تقضية عطلتهم الصيفية في باريس حتّى يقتنوا مراجعهم الباهضة الثمن، جاريبالدي توفر لهم الحدّ الأدنى من مراجع البحث، والظرف المناسب للعمل والتعلّم. «جاريبالدي» ثكنة معرفية، خطّ من خطوط النار في تونس، ميدان قتال ضدّ الغباء و الارهاب و الجهل و العماء. هذه المكتبة العظيمة، تجد نفسها اليوم عرضة للمضايقة و ربما الاغلاق لأن صاحب مقهى أرضي لا تعجبه المعرفة. نتساءل،
كيف يمكن تغليب مصلحة رأس مال صغير، متمثل في مقهى، على هكذا « صرح « من صروح العلم في تونس، تحت أي عذر و تحت أي ظرف ؟ لا يمكن أن يوجد غطاء قانوني عديم التوازن إلى هذه الدرجة، خاصة وأن القائمين على المكتبة هم المتظلّمون، و هم من طالهم الضرر، غير أن السّلط التونسية لا تخلف موعدا واحدا لتتخذ الموقف الخطأ دائما. تجد مكتبة جاريبالدي اليوم نفسها عرضة للتهميش، للضرر، بل وربّما يصل الأمر اِلى حدّ غلق أبوابها في وجه الطلبة نتيجة لعدم توفر الظروف اللازمة للعمل في ظل الصخب الناجم عن مكبرات الصوت بالمقهى الأرضي زيادة على الروائح وسوء المعاملة. أي معنى لكلام السياسيين، حكما ومعارضة، بخصوص مقاومة الإرهاب عبر الثقافة، لماذا لم يحرّكوا ساكنا، ألا يعرفون جاريبالدي؟ شخصيا، لا استغرب أنهم لا يعرفونها، فسياسيّونا أبناء
هذا الشعب نفسه، الذي يقرأ نصف صفحة في السنة. نعم، يبدو أن علاقتهم بالمكتبة كعلاقتهم ببعضهم البعض، متوترة. كما نلاحظ أن عديد الطلبة الذين مرّوا أو يمرّون عبر محطة جاريبالدي قد تظلّموا، و طالبوا بحقّهم في المعرفة في أنسب الظروف، فيما لم يجد الحلّ طريقه إلى المسألة. أظمّ صوتي إلى أصوات هؤلاء، أبناء الشعب الذين يقدّسون العلم والمعرفة، مستقبل تونس في أبهى صوره، جيل الصفّ الأول في الغد، وأطالب بالاِنتصار شكلا ومضمونا للمكتبة، حتّى لو كلّف الأمر ما كلّف.
سليم الحاج قاسم