المسرح الوطني: مسرحية «أولا تكون» لأنور الشعافي: إذا اجتاحكم طوفان الحب ... فاقدموا ولا تتراجعوا ...

جمع المجزّء وقرّب شمل المشتّت و قارب بين البعيد ووضع على الركح شخوصا لم تجتمع مطلقا وببراعة و ذكاء استطاع ان يجمعها معا في نص واحد يتحدث عن تونس الآن وينطلق

من نصوص تجاوزت من العهر قرونا، على الركح استطاع انور الشعافي وبوكثير دومة جمع كل من روميو وعطيل وهاملت والملك لير في فضاء واح وبحبكة درامية مميزة اجتمعت جولييت واوفيليا و ديدمونة و كورديليا في نص واحد وحكاية موحدة جميعهن اثثن المتعة لجمهور قاعة الفن الرابع في عرض «اولا تكون» انتاج مركز الفنون الركحية والدرامية بمدنين.

«أولا تكون» نص لبوكثير دومة انطلاقا من اربعة نصوص عالمية لشكسبير هي ملحمة مسرحية تونسية قدمها كل من فرحات دبش و خبيب العياري و لطفي الناجح و نادية تليش و عباب الاطلس الحنديري و شوقي عجيلي و لسعد جحيدر و اسماء بن حمزة (لم تشارك في عرض الفن الرابع) و عواطف العبيدي وسينوغرافيا مفتاح بوكريع وموسيقى فاضل بوبكر.

بين الأرض والسماء تضيع الارواح وتهيم الانفس
موسيقى هادئة، كأنها عنوان للقاء العشاق، اجساد معلقة في قماش في الهواء، اين ستدور احداث المسرحية، فالقماش المعلق في «أو لا تكون» هو فضاء الاحداث، هناك في الفضاء يحدث لقاء العشاق ويعاتب الخليل خليله، في الفضاء يجتمع روميو بجولييت، وفي الهواء يحوك «ياجو» المنافق مكيدة لـ»ديدمونة» الجميلة حتى يقتلها حبيبها «عطيل» و في الفضاء ايضا يصارع «هاملت» شكوكه وظنونه وفي الهواء يحادث «الملك لير» ابنته «كورديليا» طالبا منها الغفران، في الهواء تدور احداث العمل وكان بالمخرج اختار فضاء لا يمكن ان تشعر فيه بثقل الاجسام فضاء تهيم فيه الروح بعيدا عن الجسد فضاء اللاّتوزان وكان بالمخرج والكاتب اختارا ان تكون ارواح الشخصيات هائمة تائهة لا تجد مستقرا لها.

هي تطلب المستحيل لذلك وضعها المخرج في فضاء بين الفضاءين بين الارض والسماء هناك يتناحر الخير والشر، يتسابق الطمع والحب ، تتناحر الغيرة القاتلة مع الثقة و الولاء، معاني فلسفية تعامل معها انور الشعافي بذكاء وقدمها الى الجمهور ونطقت بها شخصيات شكسبير.

أول المشاهد حديث روميو وجولييت « كن ملاكي وكفى» فيجيبها روميوو « دونك هلاكي، فيك ومنك واليك وعنك هلاكي سيقتلني الجفاء ، كنت نبضة في القلب تسكنني»، في السماء يتهامسان، على صوت موسيقى هادئة رقيقة وضوء احمر خافت كلون دم عاشق اختار استباحة دمه لأجل حبيبته، اما اخر المشاهد فقتل عطيل لديدمونة بيديه، وبين ولادة قصة حب و قتل اخرى تدور الاحداث.

«أولا تكون»، حكاية شخوص احبوا فقتلهم الحب، جولييت قتلها حبها لروميو و«ديدمونة» قتلها وفاءها لعطيل و «اووفيليا» قتلها حبها لهاملت اما كورديليا فقتلها ولاءها وحبها الراقي «للملك لير»، جميعهن احببن، اشتركن في مشاعر انسانية صادقة فكانت النتيجة الموت وكأن أنور الشعاوفي اختار السواد ثنية لعمله وكانها تعبيرة من المخرج عما تعيشه تونس فمشاعر الثورة والكرامة والتحرر والولاء للوطن وحدها لا يمكنها الصمود دون عقل وتدبير وتخطيط لنجاح المسار الثوري، فوفاء «كورديليا» لوالدها لم يمنعها من الموت كذلك الوفاء للوطن لم يرحم الشهداء من غدر الرصاص و تضحية ديدمونة من اجل «عطيل» لم يحرمها الموت خنفقا بيديه بسبب النميمة كما هو الحال للكثيرين الصادقين في هذا الوطن ومنهم المسرحيين فولاؤهم المطلق للمسرح لا يمنعهم من الموت اختناقا من ضياع الحقوق وقلة الدعم.

بين شخوص شكسبير وشخوص انور الشعافي الكثير من القواسم المشتركة، على الركح تشاهد حكاية سلسلة، لن تشعر أن هناك نصا مقسما أو أحداثا مشتتة أو أفكارا متنافرة بل ستجدك مستمتعا بحكاية ابدع بوكثير دومة في كتابتها وستتبع خطى العمل دون وجل، ستجدك مستمتعا بحوار روميو وجولييت ولن ترحم شكوك هاملت وتتأثر لوجيعة «اوفيليا»، حتما سيرهقك مشهد موت الرقيقة «كورديليا» اما ديدمونة فستبحث في ملامح وجهها وستبحث عن سر موتها الصامت وستبحث عن «عطيل» وسر قوته وسر قسوة هاملت ولن يحزنك ضعف الملك لير ولا لينه وضعفه المفاجئ، ستتبع خطى العاشقين بين القماش المعلق وستحاول التكيف مع مشاهد الموت وان اختلفت طرقه.

الستائر تعوض الديكور
خال هو الركح من الديكور، فقط ستائر من القماش توزعت على الفضاء كانت وسيلة الممثلينن واداتهم الوحيدة، فكل الاحداث تدور في الفضاء بتقنية القماش الهوائي، تقنية جعلت من او لا تكون مسرحية هوائية اضفت بعض التجديد على المشهد المسرحي التونسي، الممثلين في الحكاية كما لاعبي السيرك والبالي، يدورون في الفضاء، حين يحبون يكون الصعود سهلا، اما في لحظات الغضب فتلبدو اكثر صعوبة وكان بالممثلين يريدون ان يقولوا للمتفرج «حب..حبوا بعضكم فالحب يجعلنا اجمل».

وفي اولا تكون هناك مشهدان ربما الاكثر تأثيرا وكلاهما مشهد موت الاول مشهد موت جولييت وجسدته المبدعة نادية تليش، فكانت جد جريئة في كيفية التنقل في الهواء بين الاقمشة وربط احداها ثم شرب السم، وارتعاشة الموت حد التمدد كليا في الهواء مستندة على قطعة قماش، والثاني مشهد موت الجميلة كورديليا وجسدته عباب الاطلس الحنديري، وسط قطعة القماش نرى جسد ينتفض وصوت يخفت وكأنه اعلان النهاية، مشهدين قدما صورة عن جرأة الممثلتين وقدرتهما على التعامل مع الفضاء، وتقنية جديدة عمل عليها الممثلين طيلة خمسةوأشهر متتالية ليتقنوا تقنية التحرك عبر القماش الهوائي واستغلاله كأداة للعب الدرامي، تقنية صعبة تتطلب لياقة بدنية جد عالية وحضورا ذهنيا كبيرا فالممثل يتحدث ويؤدي دوره وهو في حالة صعود الى اعلى وربما هفوة صغيرة تكون عاقبتها موجعة ولكن لابناء الشعافي قدرة على تجاوز كل المصاعب كما بدوا على الركح، اداء هوائي زاد من جمال المسرحية وجدد في الفرجة وكسر نمطية الاداء الافقي.

المميز في المسرحية ايضا الازياء فالمخرج اختارها تعبر عن أرواح شخصياته ودواخلها تماما كما نصوص شكسبير، وكلما كانت الروح جميلة كان اللباس اجمل اما الاشرار فالسواد والالوان الداكنة كانت ترمز اليهم مع اخفاء نصف الوجه .

«أولا تكون»، مسرحية فيها ثورة فنية على الركح فهي ملحمة كتبت باجساد وارواح ممثلين عشقوا الفن الرابع وعملوا الاشهر الطوال في مركز الفنون الركحية بمدنين لتقديم عمل يرتقي الى نصوص شكسبير وذكاء مخرج مختلف هو أنور الشعافي.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115