افتتاح «أسبوع المسرح» بالمسرح الوطني: مسرحية «رايونو سيتي» لعلي اليحياوي: حين يصرخ الجياع وتجهض الأحلام يكون العنف ردة الفعل الطبيعية

الى المهمشين، الى اولئك الذين يعيشون بيننا دون أن نراهم، الى من يروون الأرض بعرقهم ودمائهم لتنبت ثمرة يتلذّذها الغير، الى الكادحين المُتعبين، إلى المرهقين وجّه المخرج علي اليحياوي ومركز

الفنون الركحية والدرامية بمدنين التحية.

تحية مسرحية مشبعة بروح نضالية اراد من خلالها الممثلون تسليط الضوء على فئة مهمشة ومنسية ،جامعي البلاستيك ومن يعيشون من القمامة، تحية أرادوا من خلالها الغوص في تفاصيلهم ومشاعرهم وأحلامهم البسيطة فقط ليقولوا انهم «بشر» وهم أيضا لهم احاسيس مثل الجميع فقط ظلمتهم الجغرافيا وخانتهم المادة فأصبحوا على الهامش.

هي تحية ملحمية شارك في صناعتها كل من فرحات دبش ولطيفة القفصي وعواطف العبيدي و كيلاني زقروبة وضو حمزة خلف الله و حمزة بن عون و نادية تليش ولسعد جحيدر وعبد العزيز التواتي وشوقي العجيلي وأسماء بن حمزة (لم تشارك في عرض العاصمة بسبب الاصابة)، و جهاد الفورتي و إدريس عبد القوي و مكرم السنهوري ومساعد مخرج البشير يحي .

صورة موجعة عن المهمشين فكيف بالحقيقة؟
في جو صاخب وموسيقى مرتفعة ومع صوت ازيز الحديد القديم وأصوات اقدام متعبة تدكّ الحديد دكّا تكون البداية، فضاء العرض فضاءات، فوق القنطرة، وتحتها، فوقها المتعبون يعبرون ليصلوا تحتها اين يكون المستقر، «القنطرة» في العمل وكانها ذاك الخيط الرفيع الفاصل بين السعادة والبؤس ولكنها في المسرحية خيط يؤدي من تعب جسدي الى اخر نفسي اشد وطأة.

وسط أصوات المرهقين وانين المتعبين، ومع صورة لأناس ظهورهم مقوّسة من شدة الأثقال المحمولة وعقول شاردة وأقدام حفظت الطريق فغاب العقل عنها تكون الحكاية، حكاية أناس يعيشون هناك وهنا ، أناس يعيشون في هذا الوطن هم جزء منه هم «شريانه» و»دود الأرض» هم الكادحون، الصامتون هم المرهقون اكتفوا بالعمل والصمت مقابل قطعة خبز ولحظات حب تسرق وسط اكوام «الزبالة».

ترتفع الموسيقى الصاخبة وكأنها تعبيرة عن غليان داخلي، ليتحدث «مهذب» «فرحات دبش» رجل اربعيني بطيء اللسان بسيط التفكير يجمع البلاستيك، رجل يعمل الساعات الطوال يستغله «الحاج» استغلالا فاحشا وهو خانع فقط مقابل ملاليم ليعيل زوجته وطفله، «مهذب» نسخة عن آلاف التونسيين، آلاف الموجعين المرهقين، قدّمه علي اليحياوي في صورة رجل ازرق الوجه من شدة التعب، عينان موغلتان في الشرود، ظهر مقوس أياد مرتعشة، لحية كثة وهندام رث ممزق صورة مرهقة وموجعة عمن يعيشون على الهامش.

مهذب شخصية ليست خيالية و»الرايونو سيتي» عمل مستوحى من الواقع ومن الحي الشعبي «الرايونو» بمدنين كانت الانطلاقة المسرحية، عمل جسد فيه الممثلون جزءا بسيطا من حياة اولئك على

الركح، ساعتان تقمصوا فيها بعض الادوار ابكت الحضور فكيف بمن يعيشون الحقيقة يوميا؟.

شخصية اخرى ربما وقعها لم يكن شديدا كحضور شخصية «مهذب» هو «باولو» ذاك الشاب التونسي الحالم ابدا بمغادرة الوطن، وايّ وطن ذاك الذي لم ير منه غير الظلم والوجيعة والحرمان، باولو انموذج عن التونسي الباحث عن الهجرة المتواصلة.

اما دليلة فامرأة تزوجت فقط كي لا يقال عنها «بايرة» ، ولتتفادى هذه الكلمة ووقعها السيئ تزوجت مهذب وأنجبت طفلها وتسرق في غيابه لحظات من الحب مع عشيقها، ليتجمع الشقاء والخيانة و التمييز السلبي وعدم توزيع الثروات واجتماع «كبار البلاد» بالكناترية في مسرحية واحدة، عمل يقدم صورة بطيئة ومفصلة عن المتعبين في هذا الوطن، عن أولئك «الي نساتهم الاغاني».
الى المسؤولين...احذروا وحاذروا غضب الجياع؟

ألوان داكنة، الضوء يكشف نصف الوجه ونصفه مخفي كما الحقائق، موسيقى صاخبة وكأنها غليان داخلي وتعبيرة عن الرفض، اجساد جامعي البلاستيك تظهر للمتفرج مقوّسة، رؤوسهم محنية، وجوههم غير مكشوفة لأنهم يعيشون بيننا ولا نراهم، صوت الحديد مقلق يدفعك للتساؤل من هو الميت؟ من مات إحساسه وضميره ام من مات جسده من شدة التعب؟ أيهما الاكثر شرا من باع وطنه وضميره مقابل ملاليم لتصبح دنانير وملايين أم من باع البلاستيك وعرقه فقط ليسرق قوت يومه؟ من الاجدر بالاحترام جامع البلاستيك ام جامع الأموال اسئلة طرحت في مسرحية رايونو سيتي انتاج مركز الفنون الركحية والدرامية بمدنين، عمل قاتم موجع يحرك في النفس العديد من الاسئلة، اسئلة عن المنسيين والمهمشين، اسئلة عن الكادحين، عن توزيع الثروات عن حقهم في ثروات وطنهم، عن سنوات عمرهم الهاربة بين ايديهم كحبات رمل تنثرها رياح جائرة.

«رايونو سيتي» عمل موجع لأنه يمس الروح ويفتت الجدران العازلة، عمل قدمه ممثلون مشبعون بالبعد ممثلون يعرفون جيدا معنى التمييز وهم الذين حرموا من حقهم في الثقافة والابداع وحرموا من فضاءات ثقافية تحتضنهم لسنوات، اغلبهم يعرف معنى البعد عن لمدينة ومشقة التنقل واغلبهم عايش لحظات خوف من الغد، وكل ماعاشوه نقلوه الى الحضور في قاعة الفن الرابع.

الرايونو سيتي عمل ينطلق من الواقع من مدينة ليست ككل المدن وريف يختلف عن بقية الارياف هو تجمع سكاني يعاني أهله الخصاصة والفقر والتهميش حي «الرايونو» بمدنين ينقله علي اليحياوي بطريقة مميزة على الركح ليكون انموذج عن الاحياء الشعبية

عمل يطرح اشكاليات الفقر والتهميش وتأثيرها على شخصية الفرد والمجموعة، علي اليحياوي اختار شخصية مهذب كشخصية محورية مهذب الذي انكسر امام الفقر فانصاع امام الاستغلال الفاحش في العمل من قبل الحاج والطبيب وكل سكان الرايونو، ويطرح ايضا السؤال عن ثورة المهمشين وماذا لو يثور المهمش كيف ستكون ردة فعله؟

في المسرحية اختار المخرج ان يكون «القتل» اداة احتجاج المهذب المهمّش الطيّع واللين وكأنّه يحذر من ثورة اولئك الصامتين ويحذر من «الحيوان الساكن داخل الانسان» كما جاء في المسرحية.

في رايونو سيتي دعوة الى مراجعة سياسة الدولة في التعامل مع ابنائها دعوة الى مراجعة خارطة الوطن الاجتماعية وإعطاء الكادحين حقهم ونصيبهم من عملهم المرهق والمتعب دعوة الى نصرة

الصادقين وتحذير من خطورة ردّة فعلهم إن قرروا الثورة يوما لان الضعف سينقلب عنفا وغضبا و محبتهم لوطنه ستنقلب نقمة وكاننا امام مقولة الشاعر هشام الجخ في قصيده جحا «
«انا لما قلتلك بحبك كان نفاق الحب حالة الحب مش شعر وقوالة الحب يعني براح في قلب العاشقين للمعشوقين، يعني الغلابة يناموا في الليل دفيانين، الحب جواب لكل المسجونين، يعني اعيش عشان هدف يعني احس بقيمتي فيكي اني مش عايش عوالة يعني لما اعرق تكافئيني بعدالة، الحب حاجة ماتتوجدش وسط ناس بتجيب غداها من صناديق الزبالة، الحب جواك استحالة» فهل ستصل الرسالة؟

في رايونو سيتي ابدع الممثلون حد التماهي مع الشخصيات، المميزة لطيفة القفصي كعادتها جريئة وقوية ولحضورها سره وتأثيره، فرحات دبش ذاك الهادئ اثبت انه ممثل من طينة مميزة، طيلة الساعتان جسد شخصية مهذب واقنع الحضور أما مكرم السنهوري فبدا في شخصية جديدة أقنعت مشاهديه والمميز ايضا ان المخرج عول على مجموعة من الراقصين الممثلين ولحركاتهم واللوحات المقدمة تأثيرها الايجابي لوحات قدمت الفقر والوجيعة بلغة الجسد، في رايونو سيتي صرخ المهمشين ان انظروا الينا وانصتوا الى خفقات قلوبنا فنحن جزء من هذا الوطن، في رايونو سيتي تساؤل هل يحلم المرهقون؟ ام ان احلامهم تجهض كما حقوقهم؟

نادية تليش ممثلة صادقة ومختلفة
نادية تليش ممثلة وفنانة جنوبية الهوى والانتماء في مدنين تعلمت حب المسرح وعشق كل الوان الحياة، هناك عاندت قساوة الجغرافيا لتصنع لنفسها خريطة خاصة بعالمها الصغير «المسرح» في مدنين تعلمت ابجديات حب الوطن وحوّلت كل الصعوبات الى مسار سلس تنتهجه لتصنع مسيرتها الفنية بطريقة مميزة.

نادية تليش هادئة في الواقع ولكنها على الركح تصبح نمرة صعبة المـراس، موجع أداؤهــا ومقنع، تبكيك وتضحكك في نفـــــس الشخصيـة، ممثلة مؤمنة بما تقدم، تعشق المسرح واختارته مهنتها ومسارها، ممثلة تعمل في مركز الفنون الركحية والدرامية بمدنين تحصلت مؤخرا على جائزة أحسن ممثلة عن ادائها في مسرحية «رايونو سيتي» وقد ادت ثلاثة ادوار في العمل الواحد ادوار لشخصيات مركبة تستحق الدراسة والبحث فهي «نجوى» فتاة الليل التي لا تهاب شيئا وهي «العانس» التي تبحث عن رجل لتتزوج وهي «البكماء» الحالمة بقطعة شوكولاطة وفي جميعها اقنعت وتقمصت الشخصية حد التماهي.

نادية تليش كلما شاهدتها على الركح إلا وشاهدت شخصية جديدة بروح مغايرة تعشق ما تقدم، ممثلة مختلفة تعمل بشعار،»انا أستطيع، سأحقق احلامي وسأنجح، وسابتسم كثيرا وسأصبح اعظم واجمل وساطور من ذاتي وسانجح»، ممثلة اختلفت تجاربها وهي خريجة المعهد العالي للفن المسرحي بتونس من كعب الغزال الى «ترى ما رايت» فرايونو سيتي وغيرها من الاعمال المسرحية التي كشفت عن ممثلة مميزة تعيش بالمسرح وللمسرح وشعارها « بالفن نرتقي بالفن نحقق ذواتنا».

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115