روبورتاج: معرض النحت الجماعي بدار الفن بالبلفدير منحوتات حيّة تنادي الزائر للتمرّد على الواقع ...

هل رأيت يوما الشعور مجسما على الحجارة وهل شاهدت فنانا يشكل وطنه في تنصيبة او منحوتة يسهر الليالي لتقديمها كما يريد هل لاحظت بعض خصوصيات جمال المرأة في منحوتة حجرية ناطقة تشعر انها ستتحدث لو اطلت الوقوف امامها هل تماهيت مع منحوتة وخاطبتها

وإجابتك عن كل اسئلتك ثم انتبهت انك تخاطب خشبا؟ جميعها اسئلة ستطرحها حين تزور معرض النحت الجماعي بدار الفن بالبلفدير فيدورته الثانية معرض موجه للشباب بالاساس، معرض لازال متواصلا الى غاية 22فيفري المقبل.

يشارك في المعرض 27 نحاتا و43 منحوتة اختلفت الادوات المستعملة فيها فهناك الطين والحديد والبلور والمعادن، منحوتات تتغنى بالامل والوطن وبعضها يقدم لكفاح الكادحين وأخرى تتغنى بجسد المرأة ورابعة تنقد السياسات العربية في تعاملها مع القضايا الكونية وجميعها تجعلك تقف متأثرا متفاعلا ومتحمسا امام منحوتات تراها لوهلة صامتة ولكنها ناطقة بالعديد من الرسائل لان الفنُّ تعبير عميق عمَّا هو مخزون داخل القُلوب البشريَّة، من انفِعالات وأحاسيس ذات رسالة معيَّنة موجَّهة من قِبَل الفنَّان إلى الجماهير عبر العصور والأزمنة» كما يقول علي الغول.

الكادحون وإرادة الحياة
هم الحياة وهم ملح هذه الارض وعمادها هم الكادحون والصادقون ولهم توجه اغلب النحاتين بتنصيباتهم يذكرون الزوار انه لولا الكادحين في هذا الوطن لما وجدت الفنون ولا بعثت السياسات.
في زيارتك الى معرض النحت الجماعي أول المنحوتات مشكلة بالحديد المنحوتات الثلاث الاولى للنحات هيثم صوّة، الاولى «يد حديدية مفتوحة وكأنها تريد التحرر من قيد ما وكما تغلب ارادة الحياة الاصفاد كذلك يمكن للحديد ان ينصهر اما رغبة كادح في الخروج من «حقيقة موجعة» تجعله نصف جالس ونصف مفكر ونصف حي كما هي المنحوتة الثانية و شدة الالم وتكاتف الاصفاد سيؤدي الى «انفجار» حينها تمحي الحديد وتذوب كل المكبلات فالحرية الحمراء بكل يد مضرجة تدقّ.

واصل جولتك ايها الزائر لا تدع المنحوتات الاولى تؤثر عليك لوحدها فلازال الكثير من المنحوتات ينقل الوجيعة وهواجس التونسي، لك ان تتوقف قليلا اممها منحوتة لرجل يجلس القرفصاء مفكرا منحوتة من الطين لونها ترابي كما لون تراب هذه الارض هي ربما لانسان تالم كثيرا وكانها نقل لحالة التونسي الصادق المتعب و هي صورة للنحات في هذا البلد ذاك الذي يستغرق الكثير من الوقت والجهد ليشكّل اجمل الابداعات ثم لا يجد لجهده صدى فيشعر بأنه «على حافة الهاوية» وهو اسم منحوتة الفنان مراد بن بريكة.

كيف يجسم الفنان الجسد الكادح؟ هل يراه كما نراه نحن المواطنون العاديون؟ هل عين الفنان مختلفة عنا؟ أسئلة تجيب عنها منحوتة «جسد» أحمدي بن نايا عنوانها جسد وهي لنصف جسد صنعه من الخشب وكان لسان حال النحات يقول ان الجسد هش كما الخشب يمكن كسره وتصعب اعادة تشكيله، خشب به الكثير من الحفر و كانها هنّات تصيب الجسد المرهق وبعض سواد على المنحوتة كما التجاعيد التي تتركها السنون على جسد الانسان الكادح.
للسجن تعاليمه ان كان ماديا او معنويا فليس وحده الساكن وراء القضبان السجين فمن يحلم ولا يستطيع الوصول الى حلمه... سجين ومن يريد رغيف خبز ولا يعجز عنه سجين ومن يطمح للحرية وسط الاصفاد سجين، بالحديد شكلت منحوتة «السجين» جسد طويل يداه

واقدامه مكبلة كما احلام الشباب في هذا الوطن، ربما ضياع الحلم وفقدان الامل يؤدي الى «انفصام» جسده مراد الزايري بخيوط الحديد.

الانفصام والسجن سيؤديان حتما الى ّالخنقة» وانقطاع انفاس الكادحين من الضيم و الظلم، ووحده النحات او المبدع قادر على تشكيل مشاعر ربما تعجز الاحرف عن كتابتها ولكن النحت قادر فمنحوتة «خنقة» لمحمد غسان تصور احدهم بوجه متعب وملامح ضائعة ، كتفان غائران وصدر مفتوح وضع عليه النحات بعض الحديد في شكل متقاطع وكأنه تعبيرة عن وجيعة مفتوحة وبعض امل يريد غلق ذاك الجرح الغائر وعلى الوجه وضع جهاز تنفس وكان اوكسيجين الحياة لم يعد قادرا على انعاش الارواح المتمردة المرهقة.
للكادحين وجه النحاتون التحية، عبروا عن وجيعتهم وثقل الحياة وزرعها على أجسادهم المتعبة ومنحوتة «سياسة التوازنّ» لبثينة اليزيدي جسدت المعاناة من خلال حذاء احمر اللون جميل يشد الانتباه وعوضت القدم بظهر انسان وكان ثقل الحذاء الجميل يقع على ظهر ذاك الكادح صورة وكانها تجسيد لمقولة غيفارا « منحاز أنا للفقراء.. إلى ذلك الحد الذي جعلني أتعامل مع الأغنياء على أنهم مذنبون.”.

المرأة جميلة ورمز للامل
الوطن انثى والحرية انثى والزينة انثى والطيبة انثى والسعادة انثى اما الامل فمذكّر قوام وجوده الأنثى وللأنثى حضورها في معرض النحت الجماعي اولا بمشاركة احدى عشرة نحاتة وهنّ نجاة غريسي و سلمى ماجري وسارة بن عطية و ايمان بسرور و نصاف شكندالي وليندا عبد اللطيف و ليلى ركباني و بثينة يزيدي وسماح حباشي وكوثر بلوذنين واشراف بو صباح.

لنغماتها اجمل وقع على نفس الانسان، الحانها تنساب كما ضحكة طفلة صغيرة، هي انثى وتغازل انثى مثلها فتنطق بأجمل الألحان اولى بصمات الامل في المعرض تنصيبة «عازفة الكمنجة: تنصيبة مصنوعة من الحديد تشد اليها لكبر حجمها ودقة التفاصيل، عازفة كمنجة هي منحوتة النحاتة نجاة غريسي وهي مصنوعة من المعدن تقدن لامرأة تحمل بيسراها كمنجتها تعزف لحنا انيقا وفوقها سحابة تقيها حر الشمس وعليها عصفور يشارك العازفة الغناء وكأننا بصورة «ماريا» عازفة الكمنجة في رواية «مملكة الفراشة لواسيني الاعرج»

تلك الفتاة التي واجهت الموت والحرب بالموسيقى.
يقال اذا اردت ان تصمد للحياة فلا تأخذها على انها مأساة وطالما هناك فن فافتح ابواب الامل وشبابيكه وتنفس عبق الحياة وان قست وللأمل شكلت « سارة بن عطية» مجموعة من «شبابيك الامل» بيضاء اللون مزدانة باجمل الالوان تشدك حتما للوقوف امامها واستنشاق عبق الفن والجمال تماما كما منحوتة «امل» لإيمان بالسرور وكان بالنحاتات اتحدن لامتاع جمهور المعرض بفسحة أمل.
جميلة هي في كل حالاتها، كل تفاصيل جسدها ساحرة وفاتنة تلك هي المرأة عند نصاف شكندالي، ثلاثة منحوتات تبرز جسد المرأة وتفاصيلها بارزة واضحة وكان بالنحاتة تتجاوز مقولة «العورة» لتبرز ان جسد المرأة جميل ومغر للنحت والتشكيل، المنحوتات الثلاث حملت الاسم ذاته «جمال مركب» فقط قسمتها النحاتة الى duelle و solo وtrio، منحوتات تشترك في مقولة لنزار قباني:

أجمل ما فيك الجنون
أجمل ما فيك، إذا سمحتِ لي
خروج نهديك على القانون
الفنان بوجمعة بلعيفى هو الاخر اختار ان يكون جسد المرأة وسحرها رمزا لمنحوتة «على الصخور» منحوتة لجسد امرأة فاتنة تغازل مياه البحر وتغازلها حجارته لتغني لها النوارس وكاننا بامرئ القيس يقول:

كَـــدَأْبِــكَ مِــنْ أُمِّ الــحُـــوَيْـرِثِ قَــبْـلَهَا وَجَـــارَتِــهَــا أُمِّ الــرَّبَــابِ بِــمَــأْسَــلِ
إِذَا قَـامَـتَا تَـضَـوَّعَ الـمِــسْـكُ مِـنْـهُـمَا نَـسِـيْـمَ الصَّـبَا جَـاءَتْ بِـرَيَّـا القَـرَنْفُلِ
فَفَـاضَـتْ دُمُـوْعُ الـعَـيْـنِ مِنِّي صَبَابَةً عَلَـى النَّـحْرِ
حَتَّى بَـلَّ دَمْعِـي مِحْـمَلِـي
ألاَ رُبَّ يَــوْمٍ لَــكَ مِــنْــهُــنَّ صَــالِحٍ وَلاَ سِـــيَّــمَــا يَــوْمٌ بِــدَارَةِ جُــلْــجُــلِ
ويَـوْمَ عَـقَــرْتُ للعَـذَارَي مَـطِـيَّـتِي فَـيَـا عَـجَـبـاً مِـنْ كـورهـا الـمُـتَـحَـمَّلِ

الوطن وهمومه هاجس الفنان
للوطن بمختلف تشكيلاته الحضور في المعرض الجماعي للنحت بدار الفن بالبفدير، اولى منحوتات باسم «البقرة التونسية» لتوفيق الباهي، منحوتة من الجديد تجسد للثورة التونسية كما يراها الفنان في شكل بقرة بها اكثر من حنفية والكل «يحلب» الساسة والمواطن والنقابات الكل يريد لنفسه مكسبا ناسيا الوطن وقدرته على التحمل.

كثرة المطالب والاعتصامات والاحتجاجات اثقلت الدولة وفي المقابل هناك «غباء» سياسي في التعامل مع ماتعيشه الاوضاع عبر عنه النحات توفيق الباهي بمنحوتة «المترشح» وجسد المترشح للانتخابات برجل ببدلة جد انيقة وراس حمار.
من الوضع في تونس الى الوضع الدولي ومنحوتة «المتامرين في الساعة الاخيرة» لنجاة غريسي ، منحوتة مقسومة نصفان اولى للطفل ايلان السوري بقميصه الاحمر وبنطلونه الازرق لم تقدمه النحاتة ميتا او منكبا على وجهه على شاطئ البحر كما صورته كل وسائل الاعلام بل واقفا منصب القامة رافعا شارة النصر ناظرا امامه الى الجزء الثاني من المنحوتة وشكلت فيه الفنانة ملوكا ورؤساء وأمراء الخليج العربي الصامتين عن اللاجئين السورين ومعاناتهم وفي التنصيبة بعضهم يسبح واخر يقرأ والاخر واضعا يديه على فمه فهو اخرس لا ينطق بالحق ورابع يصم أذنيه كي لا يسمع وآخر لا يرى، وخلفهم وجوه مشوشة وضبابية تركز قليلا فتشاهد وجوها لبعض سياسيي الدول الكبرى الذين يحركون رؤساء دول الخليج العربي كما يحرك فنان «ماريونيت»، من المنحوتة تقول الفنانة ان الحق لا يموت وايلان وان مات جسده ففكرة العودة لا تموت.

الفن بكل صوره هادف حتى لو لم يعالج قضية إجتماعية أو لم ينتقد أداء حكوميا ، الفن يكون هادفا بمجرد أن يستفزك للتفكير» هكذا يقول مالك نجر وتنصيبة «تحرير» لعبد العزيز محسني تدفعك للتفكير والتأمل طويلا، فاثناء مشاهدتك للمنحوتات وجولتك في المعرض ستسمع صوت موسيقى مميزة منبعثة من احدى التنصيبات في الزاوية، موسيقى انيقة ومختلفة وكانها تدعوك للوقوف امام التنصيبة لدقائق مطولة تتأملها كيف تدور وتقلب جميع واجهاتها لمزيد من المتعة، تنصيبة تجسد لأحدهم رجل كبير البنية جالسا في هدوء وحوله بشر كثر العدد الكل يحمل على اكتافه اداة عمل وكان جميعهم يتحركون لخدمته وفي التنصيبة ايضا نقل لحياة الانسان اليومية فتجد الراقص والملاكم واللاعب والعامل جميعهم حضروا في تنصيبة التحرير لعبد العزيز محسني.
الفن آداة أو سلاح سحري في يد الجماعة الإنسانية في صراعها للبقاء كما يقول ارنست فيشر وفي معرض «النحت الجماعي بالبلفدير تجد امامك كل مقومات النضال والرغبة في البقاء بالنحت فمن قال ان الحجارة أو المعادن صامتة لا صوت لها؟

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115