1. اليهود في أوّل الزمن
أرجع الكاتب النظر الى أوّل الزمن وخصّص الباب الأول لما كان بين المسلمين واليهود أيّام الرسول محمّد وكيف أن اليهود والنصارى كانوا من أهل الذمّة. أهل الذمّة مدعوون الى دفع ضريبة الجزية ومقابل ذلك، يلقى الذمّيون حريّة في المعتقد وحماية وأمنا من السلط. في ذاك الزمن كانت هناك ما يعرف بمعاهدة عمر بن الخطّاب وكانت هذه هي المرجع في تحديد العلاقة بين المسلمين وأهل الذمّة. شكّك المؤرّخين في صحّة هذه الوثيقة وتعامل الملوك والحكّام المسلمون مع اليهود كلّ حسب هواه، كلّ حسب اجتهاده ومصالحه.. يضيف الكاتب ورغم ما في معاهدة عمر من ضبابيّة وشكوك، عاش اليهود والمسلمون في غالب الزمن في سلام ودون تنابز...
في القرن العاشر والحادي عشر ميلادي، أصبحت القيروان أهمّ مراكز افريقيّة نشاطا وحركيّة.أيّامها، كان اليهود يسكنون في الناحيّة الجنوبيّة من القيروان وكانوا يتعاطون كلّ الأشغال والمهن في أمن على أرواحهم وعلى أرزاقهم. مع دولة الأغالبة وفي عصر الامام سحنون خاصّة، تحسّن وضع اليهود وازدادت أعدادهم في البلاد وظهر تواجدهم الاقتصادي جليّا في السوق. مع الفاطميين في القرن 10، أصبحت القيروان مركزا يهوديا عالميّا مثلها مثل بغداد وتكاثرت فيها أعدادهم بل وانتشروا في البلاد، في سواحلها وفي الداخل. في تلك العقود، عاش اليهود والمسلمون في وئام جليّ بل كان هناك أمن ووفاق وتعاضد. وكان أن تدخّل في ذاك الزمن سيدي محرز ومكّن اليهود من السكن وسط تونس وفيها أسّسوا الحارة. حدّد مكان الحارة حيث سقطت عصا سيدي محرز وكان ألقاها، في ما يذكر، من فوق صومعة. لم تكن الحارة منطقة مغلقة، خاصّة باليهود بل في الحارة يحيا اليهود والمسلمون جنبا الى جنب، دون تمييز. ثم كان الحكم الحفصيّ، فنشط اليهود واشتغلوا في المال، في الفلاحة، في الخمور وفي غيرها من الشؤون فازدهرت تجارتهم وكسبوا...
رغم ما كان لليهود من شغل ومن كسب ورغم ما كان لهم من أمن ومن حرّية للمعتقد، بقي اليهود في تونس ذمّيين وكان لأهل الذمّة شروط وحدود. علاوة على الجزية، كان اليهود مطالبين بعدم التشبّه بالمسلمين وعليهم أن يلبسوا أزياء خصوصيّة تكشف عنهم. في تلك السنين، كلّ يهودي هو مدعوّ ضرورة الى وضع «الشكلة» وهي قطعة من قماش ملوّنة فوق رأسه، أو على رقبته حتّى يدرك الناس من هم وألا يختلطوا بالمسلمين. ثم كان على اليهود أن لا يمتطوا الجواد فالجواد خاصّ، مخصّص للمسلمين. أمّا ان سبّ أحدهم دين محمّد أوقال منكرا في الرسول فعقابه عذاب عظيم... ولعلّ بعض الأحداث الاجتماعيّة الهامشيّة تبيّن التفرقة البيّنة بين الشعبين رغم ما عرفه الشعبان من تعايش سلميّ. في ذات مرّة، اتّهم يهودي بمضاجعة مسلمة فكان أن قامت الدنيا وحصل تشويش تمّ على اثره شنق المرأة المسلمة وحرق اليهودي حرقا تامّا حتى الموت...
2. اليهود في الزمن المعاصر
قبيل وأيّام الاستعمار الفرنسي، شهدت البلاد حركات اصلاحيّة كبرى وكان عهد الأمان وبدأ المصلحون التونسيون ينظرون في وضع البلاد وما كانت تشكوه من وهن. في نفس الزمن، بدأت أطماع الغرب تتجلّى وكثر التنافس بين الفرنسيين والإيطاليين على حطّ اليد على تونس واستعمارها. في المقابل وردّا للخطر الداهم، ارتفعت أصوات المصلحين وكثرت دعواتهم الى تحديث المجتمع، الى التأسيس الى حكم أساسه العدل والمساواة بين الناس، بين اليهود والمسلمين. في هذا الاطار، كان لأحمد ابن أبي الضياف أن كتب وأشار الى ضرورة احترام المعتقد والى ربط الصلة بين اليهود والمسلمين والجمع بين الشعبين حتّى لا يحصل انقسام وتشتّت. يقول أحمد ابن أبي الضياف انّ اليهود هم «اخوتنا في الوطن» وبالتالي يجب معاملتهم معاملة الاخوة المواطنين. ولعلّ ما كتبه محمّد باش حامبة يعتبر مثالا لما كان سائدا أيّامها من مناصرة لليهود ومن دفاع عنهم وعن مصالحهم. بل هو أحيانا وزعماء البلاد ينتقدون ما كان يأتيه بعض المسلمين التونسيين من تسلّط على اليهود ومن سطو على ممتلكاتهم ومن تمييز مضرّ.كما دعا رجال السياسة أهل اليهود الى الاتحاد مع اخوتهم المسلمين والوقوف جنبا الى جنب في وجه المستعمر. وكان من نتيجة هذه الدعوات أن دخل حزب الدستور عديد اليهود ووقفوا نصرة للبلد وناهضوا الاستعمار سرّا وعلانيّة. ولعلّ الزعيم بورقيبة كان من أحرص الدعاة الى جمع القوى الوطنيّة. كما دعا الاتحاد العام لطلبة تونس الطلبة اليهود حتّى ينضمّوا اليهم وحتّى يواجهوا معا المحتلّ... لكن ورغم دعوات المصلحين وزعماء السياسة لتوحيد القوى الوطنيّة والجمع والتأليف بين المسلمين واليهود لم يحصل المقصود وبقي الشعبان في ريبة، في تنافر وقد زاد في تأجيج الوضع ما كان يأتيه المقيم العام الفرنسي من فتن ومن بثّ للتفرقة.
3. في تمزّق اليهود التونسيين
رغم دعوات المصلحين ورجال السياسية لجمع الشمل بين اليهود والمسلمين التونسيين باعتبار أنّنا اخوة في هذا الوطن، تندلع من حين لآخر نار الفتنة سواء بإيعاز من سلطات الاستعمار القائمة أو تبعا لجهل بعض العامّةفتحصل بين الطرفين مناوشات وصراعات وحرق وتخريب. في الليلة الفاصلة بين 19 و20 أوت 1917 مثلا، كان أن وقع السطو على عديد المغازات التابعة لليهود بتهمة ان هؤلاء كسبوا رزقا غير مشروع جاء نتيجة الحرب والمضاربة. ثمّ كانت قضيّة التجنيس وحصل في شأنها اختلاف بين المسلمين واليهود ثم كان القضاء وكان لليهود قضاء منفصل ومع الاستقلال وحّد بورقيبة القضاء جميعا وعرّبه ممّا أغضب اليهود المحافظين ورأوا فيه تدخّلا في شأن خصوصيّ...
منذ النصف الأول من القرن الماضي، ومع ما كان مع المقيم العام الفرنسيّ من سياسة تمييزبين الديانتين ومع ما حصل في فلسطين من استعمار اضافة الى ما حصل في العالم من حداثة واعتبارا الى ما كان يشكوه اليهود من تمييز ومن ضيم تأتيه السلطات التونسيّة مرّةوبعض جهلة المسلمين مرّة، كان أن حصل لدى اليهود التونسيين ريبة وخوف من المستقبل وكان من نتائج هذه الريبة أن حصل انشقاق في اوساط اليهود وأصبحت لكلّ نظر ومنهج. يقول الكاتب، في ذاك الزمن، حصلت في العالم تحوّلات كبرى وحصل في تونس استعمار ثم حركة تحرّريّة وتجاه الأحداث المتسارعة، أصاب اليهود انشقاق في النظر وفي التوجّه. كانت هناك ثلاثة فرق لكلّ فريق فهم وتوجّه. أمّا الفريق الأوّل وكان محدود العدد فكان يدعو الى الاتّحاد مع المسلمين وللدفاع على مصالح تونس وأن يتّحدوا مع بقيّة اخوتهم في الوطن لمقاومة المستعمر وتحرير البلد. من بين هؤلاء ترى خاصّة الشيوعيين والاشتراكيين والنقابيين وكلّ الناس التقدّميين. أمّا الفريق الثاني وكان أكثر عددا فكان يرغب في الانضواء تحت جناح فرنسا لما توفّره لهم من حماية ومن خدمات ومن نصرة. أيّام الاستقلال، هاجر الكثير من هؤلاء الى باريس وفيها استقرّوا وتمكّنوا. أمّا الفريق الثالث فكان صهيوني التوجّه وكان يدعو صراحة الى نصرة اسرائيل والعيش هناك حماية لهم وانتصارا بعد ما عانوه من ظلم ومن تفرقة. كذلك، بقي في البلاد من اليهود من أحبّ البلاد ورأى أنّه تونسيّ، فكرا وحسّا وتاريخا. وهناك من استهوته اسرائيل وهاجر اليها واصبح من أبناء اسرائيل وهناك، وهم الأغلبيّة، من فضّل العيش في فرنسا...
• خاتمة
يقول عبد الكريم العلاقي في خاتمة كتابه انّ «المجتمعات تقاس بحسب تعاملها مع أقلّياتها» فبحسب نمط تعامل المجتمع مع تلك الأقلّيات يمكن ادراك ماهية المجتمع وفهم ثقافته وطبيعته. هذا رأي سديد، أشاطر الكاتب فيه. لا يكفي الادّعاء والتبجّح. لا يكفي القول أنّنا أمّة متسامحة، متفتّحة، فيها حرّية واعتراف بالآخر المختلف. لا يكفي أن نقول انّنا حمينا اليهود وأكرمنا ضيافتهم وهم من غادر البلاد وغدر المعاشرة... نعم، تتأسّس المجتمعات وتتحدّدهويّتها وحضارتها بما كان لها من علاقة مع الأقلّيات سواء كانت هذه الأقليّات يهوديّة أو هي من السود أو غير ذلك. وبقدر ما كان للأقلّيات من حرمة ومن مساواة ومن حرّية في السلوك وفي المعتقد تتجلّى خاصّية المجتمع وسيرورته...
في ما أرى، أساء المسلمون التونسيون التعامل مع اليهود التونسيين، في مناسبات عدّة. لم تحرص السلطات الحاكمة على ادماج اليهود في المجتمع بل تعاملت معهم وفق مصالحها الحينيّة وأحيانا فرّقت بين الشعبين وألهبت نار التعصّب. رغم كونهم تونسيين، بقي اليهود ذمّيين، لهم لباس خصوصيّ وسلوك مميّز. في ما أفهم، لم يعمل أجدادنا المسلمون على الابقاء على اخوتنا اليهود في الوطن بل لعلّنا، شعبا وسلطة، بما أتينا من سوء معاملة، دفعنا بمواطنينا اليهود الى الهجرة الى فرنسا، الى اللجوء الى اسرائيل... أحيانا، أسأل نفسي ان لم نكن سببا في تهجير اليهود الى اسرائيل. بما كنّا أتينا من تفرقة ومن تمييز شجّعنا على الرحيل، أخرجنا اليهود رغم ما كان لليهود في هذه الأرض من تاريخ عريق، من أشغال نافعة، ومن أثر كثير...