تمثيل: دليلة المفتاحي، و حسن ربح و محمد السعيدي، و إيمان مماش و لسعد حمدة، و قدمت هذه المسرحية في عرضها قبل الأول مساء الأحد 25 ديسمبر بحضور عدد هام من المسرحيين و جمهور رابع الفنون.
في دشرة صغيرة، قابعة تحت سفح احد الجبال، قد تكون جبال الشعانبي أو سمامة أو المغيلة، او المغطة او عرباطة، فالحكاية تروي التفاصيل نفسها والمعاناة ذاتها في زمن عشش الارهاب فيه بين مختلف الثنايا والسفوح و التلال لاسيما بالمناطق الجبلية والريفية الحدودية، التي و رغم اهميتها الاستراتيجية في الذود والدفاع عن حرمة الوطن و حمايته، الا انها تعيش وطأة الفقر، و الخصاصة والبطالة و الحرمان، والاوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية.
حين تتحالف الظروف القاسية مع الإرهاب
تنطلق احداث المسرحية «حديث لجبال» والتي تمكن خلالها الطاهر رضواني من تحويل وتطويع الواقع المعيشي، الى نص مسرحي مقروء بهذه الدشرة المفردة بصيغة الجمع فما اكثر «الدشاري» في وطني الغارق في المهانة، والتي تشكل وصمة عار على جبين كل «سياسي وراسمالي و ثري جشع وطماع» يتمعش من عرق و دماء اناس جعلوا من الوطن محرابا، فصمدوا وناضلوا من اجل عزته و كرامته و مناعته ليعيش هولاء في أرغد عيش.
«كلوا و اشربوا ايها الاغنياء
و ان قتل السكك الجائعون
ولا تلبسوا الخز الا جديدا
و ان لبس الخرق البائسون»
بالمعاناة اليومية للام «هنية» دليلة المفتاحي رفقة ابنتها الشابة «زهرة» ايمان مماش، و قد اثقلت خطاهما هموم الايام و اوجاع السنين، تجمعان بعض الحطب اليابس لبيعه باعتباره مورد الرزق الوحيد، و بين ثنايا الصخور كان الشاب «ضو» الأسعد حمدة، يقتنص الفرصة لمخاطبة الفتاة «زهرة» و لما تحين الفرصة يتجاذبان اطراف الحديث المر، فهما شابان من اصحاب الشهائد العليا، عاطلان عن العمل و هنا يتم الكشف عن المناظرات و ما يرافقها من رشوة ومحسوبية فلا نصيب فيها لامثال «ضو» و «زهرة» التي تصارح الحبيب بان الارتباط المقدس بينهما مستحيل و هو في حالة بطالة دائمة، وحين يلح في طلبه تجابهه بالقول «تحب نعرسوا ونخدم عليك نا و يمّا من لمّان لحطب، هذا مستحيل» بعدها يصدم «ضو» بحقيقة اخرى اشد مرارة، حقيقة رفيقيه محدودي المستوى التعليمي و الذان يشتغلان في الحضيرة وكغيرهما من فئات عديدة من الشباب المهمش يقضيان اوقات الفراغ في السكر و تعاطي المخدرات «نا متخرج و بطال و انتوما تخدمو في الحضيرة، وتقبضوا الشهريات...».
بلادي قبل أولادي.. !
في المسرحية ايضا تروي الجبال، حكايات الاوضاع الاجتماعية لوحدات جيشنا الوطني وبطولاتهم، وصمودهم في مجابهة المخاطر التي تهدد امن الوطن والمواطنين فالعريف في الجيش يطلب من الكولونيل تمكينه من رخصة لمدة 48 ساعة لزيارة زوجته المريضة وفي حالة خطرة، لكن طلبه يجابه بالرفض، فيواصل مهنته في الحراس دون تردد، ثم يتم اعلام الكولونيل بان احد افراد عائلته المقربين اصيب في حادث مرور، و لكنه يرفض مغادرة موقع عمله لجسامة المسؤولية المناطة بعهدته، بعدها خاطب العريف «بامكانك الذهاب في اجازة للاطمئنان على صحة زوجتك» فيرد عليه «سيدي عائلتي ليست افضل من عائلتك باش نبقى نحمي بلادي».
في مكان اخر و ليس في المسرحية سياسي مستكرش يتنقل من نزل الى اخر، فيطالب وهو يجلس على مقعد و ثير، باعادة تجديد دورات المياه، وبمنحة التقاعد و هو الذي تتجاوز غياباته حصص الحضور لمناقشة اوضاع الدولة، بل ويتلكأ في الموافقة على اوامر وقوانين تحمي هؤلاء الجنود وأمثالهم من الأمنيين... هذا الجندي الذي ينتقل من جبل الى اخر «في يدي بندقيتي... وعلى كتفي نعشي».
تونس تنتصر
وتأخذ المسرحية منعرجا اخر حين يظهر «ضو» ويفاجئ رفيق دربه «مصباح» بمظهره المرعب والسلاح الذي بين يديه فـ«ضو» تحول الى ارهابي وطلب من رفيقه إحضار حبيبته «زهرة»، والا فستكون نهايته الموت، ويسارع مصباح ليعلم الكولونيل بالقصة فيحاول هذا الاخير إعلام «هنية» بذهاب «زهرة» لمقابلة «ضو» الذي حولته الظروف القاسية وانسداد الافق وحرمانه من الزواج من حبيبته إلى ارهابي، حاله حال العشرات من شبابنا الذين غرر بهم وتعرضوا الى عملية غسل دماغ، وتم الدفع بهم الى بؤر التوتر، لتقتيل وترويع الابرياء باسم الدين، «رئيس الدولة على اطلاع بالاحداث ويطلب منك ارسال زهرة معنا...» يقول الكولونيل، فترد الام بدهشة «رئيس الدولة... وهل يعلم بفقرنا وجوعنا، وحال دشرتنا... لا لن ارسل ابنتي فليرسل هو ابنته»، ولان «هنية»
المرأة البسيطة الحالمة بحياة افضل وبوطن امن، تقدس الارض التي تعيش عليها، تغلب مصلحة الوطن على مصلحة عائلتها وتلبي نداء الواجب، بتقديم زهرة طٌعما للايقاع بالارهابي «ضو» الذي يقابلها بطريقة المتشدد العنيد الذي لم يعد يؤمن بالحب، ويرى ان نمط العيش في البلاد كفر ويجب القضاء على الجميع... تداهم دورية الجيش الارهابي، ويتعالى صوت الرصاص، لكن زهرة كانت الاسرع وبالمسدس الذي دسته الام بين ثناياها تقضي على حبيبها بطلقة اولى ثم بطلقة ثانية... «زهرة» تونس النقية المتفتحة والاصيلة ترفض الارهاب وتقضي على المنخرطين فيه حتى وان كانوا اقرب واحب الناس... فعن اي قانون للتوبة تتحدثون، وعن اي عودة للارهابيين تخططون، فتونس امي «هنية» وتونس «زهرة»... وتونس الكولونيل العريف والجندي، والامني والمواطن البسيط المرابط على الحدود رغم الفقر والتهميش يريدون.. حديث الجبال حديث الساعة... وجع الجبال وجع الوطن... وجع الامة... حكاية «ضو» هي مأساة شبابنا الذي دفع بهم بمن كانوا يعيشون في الرفاه والفيلات الفاخرة الى المحارق... «حديث لجبال» اضحكت
وابكت العديد ممن واكبوا العرض، كيف لا وهي تلامس واقعنا الحالي وتضع الاصبع على الداء... تتجاوز الممنوع وكل خط أحمر لتصارح وتكشف للمتفرج العديد من الخفايا والمحwورات ومن خلالها انتصار للحب على الارهاب وانتصار الخير على الشر... من هنا يبدأ الدرس ولتكون الخاتمة كما ارادتها زهرة.
«مسرحية (حديث الجبال) اعتمد مخرجها المسرحي الهادي عباس في جوانب منها على الرؤية السينمائية، من خلال الحركة البطيئة التي تستدعي من المتفرج دقة الملاحظة، اضافة الى الاضاءة التي امنها رمزي النبيلي، والموسيقى التي صممها كل من صابر جمال والامجد بن حسين، وقام بتوضيبها اسامة فرحات، وتصميم الركح لكل من سمير السندي وحسام بن براهيم، وايضا توضيب الركح والاكسسوارات، الذي اشرف عليه كل من محمد بشاتنية وقليعي حراثي ومنصور بن زينة».