فِعَالاًتُ سُلالَـةِ ... أبْناء «الرّهّازات».. (يحدُث للْأفــْعَــى أنْ تــَكونَ أكـثر حِكمةً من السُّلْطة وإنْ هوّ الشّاعر عَنْترة العَبْسي قَدْ حَذّر اُلْخَلقَ من «لينِ مَلاَمِسها»)

• اشارة أولى من «قاضي الشّعراء » زُهير بن أبي سلمى
« انّ الحق مقطعهُ ثلاثٌ / يمينٌ أو نفارٌ أو جلاءٌ»
• اشارة ثانية من الفيلسوف الفنان ألآن باديو:

La politique est à mes yeux une procédure de vérité mais qui porte sur le collectif : c’est-à-dire que l’action politique fait vérité de ce dont le collectif est capable. Par exemple : est- elle capable d’égalité Est- elle capable d’intégrer ce qui lui est hétérogène
ALAIN BADIOU « Eloge de l’amour » P-61 GF/ 2016

(1)

دوّنتُ ما دوّنتُ ذاتَ فجر ليلةٍ من سنة 1989 خلال عُزلتي وقد طارَتْ أطْيارُ النّوم من عيْني وأنا في غدي التونسي , ذات يوم اثنين سوْف أَمْثل أمَام السيد «حاكم التّحقيق « بقصر العدالة» بتونس العاصمة صُحْبة السيدين زياد كريشان وعمر صحابو بالتُهْمَة المَكْرورة منذُ زَمن انْحطاط المُكتَسب الثّقافي الحَضاري العربي / الإسلامي. أية تُهْمَةٍ ؟ تُهْمة : « النيل مِنْ الأخْلاق الحَميدَة» , على إثر نَشْر مَقال لي « بمجلة المغرب» التي كُنتُ أسَميّها عنْد أصْدقائي « أغُورا الصّحافة التونسيّة وساح التدرّب على الديمقراطية الحِبريّة في تونس وطن القلب».
عنوان ورقتي كان « الإفْصَاحُ في تسْميات النّكاح والمَعْمول به والمسْكوت عنه» وسِلسلة مَقالات السيد زياد كريشان كانت حول « الجنس في الإسلام..» أما السيد عُمر صحابو فهو صاحب «المجلة» و«رأس الجماعة», الذي لم ينْتصح بنصيحة محامي ديمقراطي جسورٍ أمامي - وهو السيد المزوغي - بعدم نشر مَقالي. كان أوّل من أعْلمني بأنّي مَطلوبٌ «للعدالة» صديقي المشغوف السينمائي الأستاذ الناقد الأدبي التّونسي , الهادي خليل حين لقاء به صُدْفة في مقهى « الروتندا / الكيلت» في سرة العاصمة التونسية . وصادف أن كان مَعي متن كتاب رسائل بالفرنسيّة بين الأدُباء, كنْتُ أتَرْجم منْه بعضا من الصفحات لمُتْعتي الشّخصيّة ولأصْدقائي حسن بن عثمان و المَرْحومين :محمد الصغيّر أولاد أحْمد وصَلاح الدّين ساسي...

(2)
دوّنتُ في تِلك الليلةِ الليلاء, من بين الرّسائل تِلكَ, فقرة « طريفة » كان قد كتبها الشّاعر القُصْوَوِي الشّطَطي ّ والتّخُومي, صَاحب ديوان طَالما كان موْضِع شَغَفي وهْو ديوان « أزْهار الأَلـــمِ » أو « أزْهار الشرّ», كانت قد أهْدَتْنيــه بقفص بقفصة, أستاذة فرنسية جميلة وأنيقة وعاشقة «لمقدمة» ابن خلدون وهي «مدام شُنْفرو» ومن أقْصدُ غير شارل بودلير .ماذا تقول تلك الفقرة / الشّذرة التي وقعتُ عليها الآن (2016) بعْد كلّ هذه السّنوات الطِوال وأنا أتقلّب آخر الليل مع صَفحات «الأعمال الكاملة» مُتَرْجَمَة إلى العربية من قبل الرائع الجَسور رِفْعت سعيد, الذي يُطلق على بودلير تسمية « شاعِر الشرّ اُلْجَميل » . استوقفتني تلك «الشّذرة» التي كنتُ قد ترجمتها وطرب لها كثيرا الراحل أولاد أحمد وبقي يرددها ... لسنوات رحمه الله و قد استهل بها السيد المترجم مشكورا تقديمه «للأعمال الكاملة» وهي من مَكْتوبِ «قلبي عَاريا»؟

(3)
يقول شارل بودلير حرفيا: «أغْبياء البُورجوازيّة الذين يتشدّقون دائما بكلمات من قبيل «لا أخْلاقي», «لا أخْلاقية», «الأخلاق في الفنّ» وغيْرها من الحَماقاتِ, يذكّرونَني « بلويز فيلديو » , وهي عَاهرة بخمسة فرَنْكات, رافَقَتْنيَ ذاتَ يوم إلى ( مُتْحَف ) اللوفر, وكانت تلك أوّل مَرّةٍ تَزورُ فيها ذلك المُتْحَف, فاُحمّرَ وَجْهُها وراحَت تُغطّيه بِكفّها وتَجْذِبُني من كُمّ السُتْرَةِ , مُتسَائِلة أمَام اُلْلّوْحَات الخَالِدَة : «كَيْف أمْكَنَ عَرْضُ كلّ هذِهِ اُلْعَوْرات على الناس ..؟». تلك هي المُلاحظة «البودليرية الآثمة» على « لويز فيلديو » المُومِس اللاّمُحْترمَة لحُريّة الفن, وعلى نِفَاقِ «البُورجوازيّة المُتعَفّة». أما مُلاحظتي الإحْتِجَاجيّة الشّخصيّة حينَها فقد ذهبَتْ في الحِين والآن لأفاعيل حُراس «الأخلاق الحَميدة» المضروبَة و الضّاربة في القَداَمَة, وأرْوِمَتها الفَشْفاشَة «بأخلاقَوِيَتِها» البليدة المنتسبة زورا الى «الحداثة» و«ما بَعْد بَعْد الحداثة» , التى لاَ أعْرف إلى الآن جنْسها وما إذا كانت «ذكرا» هيّ؟ أم هيّ» أنثى» أم «خنّثا « كما كتبتُ ذلك بكل حَرائِق الحُرقَة واللوعة على الوطن في كتابي « كتاب الجِراحَات والمَداراتِ ». تذكّرتُ تاريخ السّلالة في تشْريد وصَلب وتجْويع وترْويع ونَفي الكُتاب وصَلْب المُتصوّفَة وحُرق الكتب ... تذكّرْتُ فِعَالات طبقَات الأنْذال و«النّطف الطاهرة»... تذكّرت «حبيبة المكيّة» «حُبىّ المُعلّمة», التي علّمت ومَهّرّت بِمهارة فائقة وراقية أمَهات... وأمّهات.. أمّهَاتِهِم منذ زمَنِ الأزْمِنَةِ الغَابِرة, حين علمتهنّ « الرّهز والغَرْبَلَة ». أبناء «الرّهّازات».. عبيد الكراسي السياسية «النّطّاطَة» والهَزّازَة, و«الدوّارة» في كل الجيهات والاتّجَاهات . لقد قال عنّي رئيس دولة عربية عرّت الأيام «أمّ رأسه»... إذْ قفزَ به التّاريخ خارج أسوار الوطن - والعُهْدَة على الرّاوي - قال عنيَّ: « من أيْن أتَى بهذا اللّقب «دولة»؟ لوّحوا أمّه في الحَـبْس...».

وتلك كانت مُقدّمات المَطر الوطني النّافع للجوارح وسائر الأعْضاء... التى أنْبَتَتْ عندي « زهور ألم» و«أشواك شرّ» لسنوات طوال وطوال . وكان حينئذ ولا يزال السكوت بالنسبة لي عن تدابير السّطلة السياسية « القامعة - القمّاعة» و«كلاب حراستها» السائبة, ضربا من الإستسلام الجبان فكتبتُ ضدها نصّا هو بمثابة البيان, القادح والغاضب نصّ « تْبديع الإبْداع أو كيْف أُعَاوٍدُك وهذه آثار فأسك أيّتُها السّلْطة الجَميلة «مستحضرا مثلا عربيا» يؤرخ للغدر والخياتة», وقد مثّل ذلك النّص « الجرح الثاني» و«المَدار الثّاني» من كِتابي «كتاب الجراحات والمَدارات». آه لن أنسى كيف هرعت بعض الاقلام في الصحافة التونسية مُشيدة بتدخل «السيد الرئيس الذي أمر بإيقاف التتبُّعات العدلية (1989 ) تحت ضغط الصحافة البرانية كما جريدة ( لوموند ), ايقاف تلك التتّبعات الشرسة ضد « مجلة المغرب», وضد السيد عمر صحابو وضدّ السيد زياد كريشان وضدي ... كم كانت حفلة تنكريّـة تبادلتْ فيها « الفضائل والرذائل » الأدوار بكل سلاسة وكياسة ومرونة على الطريقة التونسية... تلك. ذلك لم ينف مرورنا أمام السيد حاكم التّحقيق ... لكن ما هو مَضْمون تلك «الحكاية», حكاية الحيّة الحكيمة؟ يحدُث للأفعى أن تــكون أكثر حكمة من السّلطة وأن كان الشاعر عنترة العبسي قد حذّرنا من «لين ملامسها».

(4)

كما «مَـجْمَع الأمثال» للميْداني CORPUS تقول الأوراق في أكثر من مَتْن (« أنه كان هناك أخوين مُتحابين، وفي يوم من الأيام عم الجفَاف وانتشر فأجْدبت البلاد، وقلّ الزرع، وندَر الكلأ وكان بجوار بلادهما واد خَصيب، مليء بالزرع والشجر والأعشاب، وكانت في ذلك الوادي حية تحْميه وتمنَع أيّا كان من الاقتراب منه أو الرّعي فيه. فقال أحد الأخوين للآخر: يا أخي، لو أني أتيتُ هذا الوادي كثير الكلأ فرعيتُ فيه إبلي وأصلحتها فرد عليه أخوه قائلاً: إني أخاف عليكَ من حيّة ذلك الوادي! فلا يوجد أحد يذهب إلى ذلك الوادي إلا وأهلكته. فأصرّ أخوه على النزول وقال: فوالله لأفعلنّ. فنزل أخوه في ذلك الوادي وأخذ يرعى إبله فيه لفترة من الزّمن، ثم قامت الحية بنهْشه وقتله. فحزن أخوه عليه حزناً شديداً، وقال: لا يوجد في الحياة خيرٌ بعد أخي، وأقسم ليطلبن الحية فيقتلها ويثأر لأخيه القتيل، أو ليلحَق بأخيه. وهبط إلى الوادي وبحث عن الحية ليقتلها، فوجدها وإقتتلا فقدر عليها، وعندما هم بقتلها إنتقاماً لأخيه، قالت له الحيّة:

ألا ترى أني قاتلة شقيقك؟ قال لها: نعم، وها أنا أثأر له. فقالت له الحيّة: هل لك في الصّلح، وأدعك ترتع في هذا الوادي كيفما شِئت، وأعْطيك كل يوم دينارا من ذهب. فقال لها: أوَ فاعلةٌ ذلك أنت؟ فقالت له: نعم. فقال لها:فليكن ذلك كذلك ، وأخْذت عليه المواثيق والعُهود على أن لا يضرّها أبداً، وأخذ ينزل الوادي وقتما شاء، ويذْهب فيه إلى أي مكان أراد ، وأخذت الحية كل يوم تعطيه ديناراً، حتى كثر ماله، وعَظُم جَاهه، وكَــبر سلطانه، وزادت تجارته، وأصبح من أغنى النّاس، وأحْسنهم حالاً، ولكنّه تذّكر قتلها لأخيه ، ولم ينس من قتله، فَفار دَمه، وعَزم على الإنتقام له، وقال في نفسه: ماذا ينفعني العيش في هذه الحياة، وأنا أشاهد بأم عيني قاتلة أخي أمامي؟ فأخذ فأساً وعزم على قتلْها، فقعد لها ينتظرها، فسارت أمامه فتبعها، وقبل أن تدخل جـُحرها ضربها بالفأس فأخطآها.... فلما رأت من غَدره قطَعت عنْه الدّينار فخافَ الرّجل من الحيّة وشرّها، فندم على ما فعل، وجاء للحيّة وقال لها: هل نعُود ونتواثق ولا نَتَواثَبُ من جديد ونعود إلى ما كُنا عليه من قبل فقالت الحيّة له قولتها الشهيرة التي أصبحت مثلاً سائرا: «كيف أعاودُكَ وهذا أثرُ فأسِكَ»؟).

(5)

الثابت الرئيس أن في «نفس» كل كاتبٍ تونسيٍّ حرٍّ وكاتبةٍ حُرة من قول امرئ القيْس مَا فيها:
« وقد طوّفتُ في الآفاق حتىّ
رضيتُ من الغنيـمَة بالإياب»

(6)

لقد كتبتُ لكاتب تونسي شابٍ ذاتَ سنوات مـِحْنَةٍ, ضمنَ ما كُنتُ قد كتبتُ: صديقي الحبري وشقيقي في تراب الوطن الأعزّ... ثق أن «الزّهد» أقوي سلاح تحصّن به ذات الواحد منّا ذاتها ... هل تـُــريد «اعترافا»... من أناس لا يعترفون بقيمة العلم والمعرفة والتّعب والكدْح العقلي ... وتحمّل جميع أشْكال العُزلة في سبيل ذلك ..؟ خَفّفِ القول عنك يا صاحبي لك أن تحْزن دون تشاؤم لك تيأس قليلا وان كان الشّاعر «الطّرماح» رأى في «اليأس» من بعض الخلق « تـِـرياقا شافيا». لقد اصبحتُ شخصيا أتلافى الإطلاّع على ما يكتب بعض الأصدقاء الحبريين الخُلص والصّديقات المخلصات لذواتهن تلافيا لمراكـمة رأس مال الألم الذي يعْتَصِر قلوب الجميع. لا تحزن أكثر ... وان كان للحُزن العميق فوائد جمّة على مستوي النزيف الحبري للكتابة ... سلام غير مودّع ومحبّة. لقد كان دائما «سُكر السُّلطان أشدّ من سُكر الشّراب» وكانت السّلطة دائما «حُلوة الرّضاع مُرّة الفِطام» «كما ورد الخبر الأكيد في كتاب «تهذيب السياسة وترتيب الرياسة « للإمام أبي عبد الله محمد بن على القلعي. ما أبلغ هذه «الرّشْقة» من أرْشاق شَهيد «دير العاقول» الشاعر المتنبي:
«وما بَلَدُ الإنسان غير الموافِقِ
ولأهله الأدْنون غير الأصَادِقِ
- وجائزة دعوى المحبّة والهوى
وانْ كان لا يخْفى كلام المنافق»

(7)

ما ألذ أن يكون الإنسان حُرا على الحقيقة في وطنٍ حُرّ على الحقيقة مع الحرائر على الحقيقة والأحْرار على الحقيقةِ وإنْ هو تجرّع المرّ بعْد الـمرّ .«من النّاس من هو عابدٌ على الحقيقة ومن يُظنّ أنه عابدٌ وهو مُرائي - مُنافق, ومنْهم من هوّ جميلٌ بالحقيقَةِ ومنهم من يُظن به أنه جميل للزّي واللّباس وليس هو في الحقيقَة جميلا...» هكذا ورد في كتاب «تلخيص السّفسطة». ومنهم من يدّعي الحب: «حُبّ الشعب», «حبّ الله», و«حبّ الوطن» وهو يتقدّم بأقنعة تحتها أقنعة وتليها أخْرى وأُخْرى تلي التي تليها ...
قليلٌ من «الأكسيجين» الذي تُسميه لغةٌ من أعْذب اللّغات « الرّوْحَن», آه, يا لفِعَالات سُلالَة... أبْناء «الرّهّازات».. ما أكثر اشباه وشَبيهات «لويز فيلديو» العَاهرة بخمسة فرَنْكات».
وعلى وقع ايقاع كلمات كتاب « تلخيص السّفسطة» لإبي الوليد بن رشد و على وقع ايقاع كلمات كتاب «قلبي عاريا» لشارل بودلير يكون الوداع ...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115