أريدُ كِتابَة ذاتي الجَرِيحَة
ولكِنْ تجُفُّ دُموعُ القريحَة...
فنكتشف في هذه الرحلة شعره الذي يتشكل تعابير عبر وارد يأتيه في أجواء خاصة زمانا ومكانا فيُحْدث لديه حالة سُمُو روحية تتهيأ فيها ذبذبات روحه فتلتقط الألفاظ من السماء نجوما لا يخفت بريقها، فيقطف الجراح ويُلمْلمها من غيوم تشبعت بالدماء مسافرا في المرايا. يوقظه الليل فيرى عينيها ملأى دمْعا وأمنيات. يتفلت في لحظة من لهيب الزمان فتُغني له طيورُ الفجر قواف حنونة من رخام. تتسابق الظلال معه مسرعة على إيقاع العمر. أما السُّحُب فتغدو مُزُنا ماطرة تسقي جَفاف الأرواح العطشى بكلمات لها ضوعٌ خفي إنها القصيدة وولادتها. أما هو فيكون في حالة من «الاحتراق والانعتاق» معا، متسربلا في غياهب بوح يتم عبر اتصال خفي بروح الشعر الكامنة في ذاته القلقة يصفها بقوله:
لا صوْتَ لي
والرُّوحُ قدْ رَحَلتْ عَني
وحْدي أنْسُجُ الكفَنا
أمْضي إلى حيْثُ اسْتوى حُلمي
فأعودَ كيْ أسْتوْطِنَ البَدَنا.
إنه الشاعر الذي تظهر معجزته في الكلمة المتفجرة من أعماق روحه، فيهُشُّ بها على ألمه وآلام الآخرين بردا وسلاما كأنها عصا موسى التي تفلق البحر كي يُزْهر صبحٌ ويبتسم غد. إنه الإنسان في رحلته عبر الأيام، مسْتشْعرا غربته ووحدته كما لا يحسها أحد. يصارع الهموم ومصاعب الحياة في هذا الزمن الذي طغت فيه المادة على كل ما حوله. غربة متعددة الوجوه ما بين اجتماعية وروحية. بل هي أزمة الأزمات أن يُحِسَّ الإنسان نفسه غريبا وسط عوالم لا تشبهه ولا يعرفها، مضطرا للتعاطي معها وجودا وعاطفة...!
وهذه الرحلة التي تنطلق على صفحات السحاب من حق المُمْتطي لركابها أن يقطف خلالها أزهارا وفاكهة من بساتين مختلفة. هذا بستان للمتنبي، وذاك لابن الفارض، وآخر لنزار، أو لابن سينا في عينيته الباحثة عن الروح، وغيرهم شعراء كثر دون أن ندري إن كان ذلك إعجاب بتلك الزهور القصائد...؟ أم تعبير عن تأثره بها وإخراجها لنا برؤى وصيغ جديدة...؟ ولكنه لا يلبث أن ينفي علاقته بكل ما ذكرت:
لسْتُ المُتنبي
كيْ أمْدَحَ ما في الجَيْب
ولا قيْسا
يَغْرقُ في بحْرِ الحُب
ولا يُوسُفَ يُلقيه إخْوَتهُ في الجُب.
أنا غيْري في السِّر
وظلي في...
وإذا كان موضوع الروح وعلاقتها بالجسد وهبوطها، ومن ثم فراقها قد شغل يوما ابن سينا والسهروردي وبقية الفلاسفة الشعراء فإننا نجد أن هذا الموضوع حاضر بقوة في محطات هذا السفر وأبياته مما يدفعنا إلى القول بأن هذه الرحلة السحابية سينوية إشراقية من حيث غربة الروح والنفس في هذا العالم الظلماني جسدا وهيكلا ومعنى، وهيغيلية المنحى في آن معا من حيث غربة الإنسان كمخلوق بشري وسط مجتمع فجٍّ ذي وقع سريع جدا.
وما عُمْري
سِوى رَمْسٌ
أمْضي ولا أمْضي
أبالي... لا أبالي
إنني جَسَدٌ بِلا روح
وريحٌ تقْتفي أثرَ المُحال...
وتكون الخاتمة في ذكريات عن الماضي وعطره وألقه كنهاية حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة، تختتم كل واحدة منها مُشْعِرة السامع ببداية حكاية أخرى:
وهكذا كانتْ مَنازِلنا
وَجَعاً تُرصِّعُهُ تفاصِيلُ الخريف
لتكون النهاية الحقيقية للرحلة والإنسان معا فجائية لصاحبها ولمن حوله:
في رُكْنٍ
عَثرْتُ على كلامٍ
يحْمِلُ اسْماً
مِثلَ اسْمي
في قُصاصَةِ تعْزية.
نهاية، ونوافذ الأسئلة مشرعة، والإنسان فيها ذكرى، والقارئ يتساءل:
هل هذا الديوان سفر في لجج الهموم...؟ أم هو رحلة في عالم المثل...؟ أم فتح لآفاق أرادنا الشاعر أن ندخلها ونزورها معه فننعم بضيائها ومعانيها...؟
خالد بريش/ باريس