حلم جمع الشمال والجنوب في إيمان بأهمية الفن ودورها في بناء شخصية الانسان فالأمل في تلك النافذة التي مهما صغر حجمها تبقى مجالا يفتح أفقا واسعا في الحياة.
من عشق الخشبة وحب الفن الرابع ولدت معالم وطن صغير شكله ضو حمزة خلف الله و عبد الحكيم الصويد، حلما بوطن صغير اخر مخالف للموجود وانطلقا من «منامة» لبنا الوطن الصغير ، فضاء صغير جميل الملمح والهيكل سمياه «فضاء وطن ثقافي» فضائي هو نبراس للأمل وخطوة للتغيير وفرض الثقافي في بني خداش.
نريد لهذه الجبال ان تسجد للفن
هل هناك اجمل من الايمان بالحق في الحلم؟ وهل هناك اروع من النضال لنحقق احلامنا؟ وهل من مطية للتغير غير الفعل ؟ اسئلة كثيرة تطرح وأنت في طريقك الى معتمدية بني خداش من ولاية مدنين لاكتشاف وطن صغير ميزته انه شيد من اجل الحلم ومطية للجمال وتغيير الموجود.
الرحلة انطلقت من الجارة تطاوين، مرورا بقصر الحدادة اين صوّر فيلم حرب النجوم، ثم غمراسن اين تستقر روح العلامة ابن عرفة فوق الجبل تحرس المكان كالإله يراقب ملائكته في هدوئه و صمته يرنو الى الشمس المضيئة ويعاند الرياح ورمال الصحراء، تتواصل الخطوات في الطريق الجبلية الوعرة، صخور الى اليمين واليسار، طريق جبلية وعرة المسالك تزينها صفرة الرمال بدرجاتها المتفاوتة طريق تدفع المار للفرجة والتساؤل ماذا بعد هذا الطريق؟ وما ميزة الفضاء المنشود، اسهم وعلامات مرورية متباينة، قصر الجراء،
فقصر زمور فقصر الخراشفة، ثم بني خداش غير بعيد عن المعهد الثانوي بالجهة يوجد الفضاء الوليد.
اطار ابيض كبير حديدي الشكل يبدو للناظر انه يخفي سرا فما وراء كل هذا البياض؟ بضعة خطوات لافتة كبيرة كتب عليها ببنط يظهر للمارة «فضاء وطن الثقافي» في الداخل سيطرة للونين الاسود والاحمر، فضاء كقطعة شطرنج متناسقة الوانه تناسق أهداف القائمين عليه.
«حلمة»، مازلت لم استوعب بعد ان حلمنا موجود وعمره شهر ونصف، «لم افهم بعد ما حصل حلمنا بفضاء ثقافي خاص في مدينتنا بني خداش منذ 2009 حينا كنا ندرس المسرح في الكاف ومنذها والحلم يكبر تدريجيا ومازلت لم افهم كيف انجزنا حلمنا من اللاشيء» بهذه العبارات تحدث المسرحي ضو حمزة خلف الله عن فضاء وطن، عن وطنهم الصغير الذي اكد انهم يريدونه ان يكون شمعة امل تضيء المشهد الثقافي في جهة بني خداش والأرياف المجاورة لها فمن حق كل ابناء تلك المناطق الحق في الثقافة والمسرح ، من حقهم التمتع بمشهد مغاير ومخالف للموجود، ورغم العقلية المتداولة غير المقبلة على الفنون يظل حب المسرح شعلة متقدة في نفوس الصغار وتبقى كلمات الشابي أملا يتمسكون به:
واسير في دنيا المشاعر حالما غردا وتلك سعادة الشعراء
اصغي لموسيقى الحياة ووحيها واذيب روح الكون في انشائي
واصيغ للصوت الالهي الذي يحيي بقلبي ميت الاصداء
واقول للقدر الذي لا ينثني
عن حرب آمالي بكل بلاء
لا يطفيء اللهب المؤجج في دمي موج الاسى وعواصف الارزاء
فاهدم فؤادي ما استطعت فانه سيكون مثل الصخرة الصماء
لا يعرف الشكوى الذليلة والبكا وضراعة الاطفال والضعفاء
ويعيش « جبارا « يحدق دائما بالفجر .. بالفجر الجميل النّائي
الفضاء صغير الحجم، كبير بأحلام مسيريه والمشرفين عليه، زينته بسيطة تجمع الاحمر والأسود لونا السيادة يتصارعان لمن ستكون السيادة يتحادثان يتسابقان يعبران الشعاب والوهاد ثم يستقران في «وطن» فكل المتناقضات يمكن ان تبني وطنا خاصا ومميز.
حائط الوطن مزدان برسومات ولوحات لفنانين مسرحيين كتبوا بعرقهم أجمل العبارات على الخشبة وأصبحوا قدوة للشباب، ومن بينهم الراحل احمد السنوسي في «بورتريه» باللون الابيض والأسود ينظر امامه في صورة بدا فيها شامخا مثل هرم لم تهزمه الخيبات المتكررة وظل شعلة لا تعرف الانطفاء لحين انسحابه الى عالم اخر واكد حمزة خلف الله ان المعارض ستكون حسب المحاور انطلقوا بالمسرح ثم بقية الفنون فوطنهم مفتوح لكل الفنون ولكل بادرة للتغيير.
شهر وأسبوعين هو عمر الفضاء، حيث قدّم لرواده عروضا سينمائية للكبار وقدم لهم انتاجا مسرحيا عنوانه «الزمة» تمثيل حمزة خلف الله وفارس اللبان وموسيقى معز الونيسي وسينوغرافيا علي المحمدي اخراج عبد الحكيم صويد عن نص اصلي «حديقة الحيوانات» للكاتب ادوارد آلبي، مسرحية انطلقت من القاعة وسط جمهور الرواد الذين فوجئوا بالعرض والممثلين كانوا جلوسا بينهم.
«الزمّة» محورها ازمة الخطاب الذي عاشته تونس بعد الثورة، ازمة تواصل بين اجيال مختلفة وشرائح متباينة اثرت سلبا على مانعيشه ومن نص عالمي انطلقت الفكرة لتونسة النص حتى يلائم البيئة في بني خداش.
على الطريق الرئيسي يوجد الفضاء الصغير هو رسالة للجبال لتصدح باسم الفن عاليا رسالة الى الرمال لتحمل صوت عشاق المسرح في بني خداش وتنثره في ربوع الوطن في الصحراء وعلى الجبال تسجد للفن وتكون مطية للكشف عن تنوع ثقافي تزخر به الجهة.
نريد حقنا في الثقافة
وحده المسرح يعرف حجم ضحاياه …يُلبسنا أثواب المتعة والدّمع …وحده الكفيل أن يصنع قناعاتنا ، أن يحفظ ذاكرتنا من رياح النفاق والخيانات والخيبات والانكسارات... هو وحده القادر على أن ينقش الابتسامة على محيانا... وأن يوقظ فينا براءة التضحيات الجسام …هو من نترك به وفيه أثر ظمئنا وصدقنا وتفاصيل حلمنا وواقعنا هكذا كتب بمناسبة اليوم العالمي للمسرح، وفي هذا السياق يعمل عبد الحكيم الصويد وهو استاذ مسرح مع تلاميذه، يجلبهم من المعهد وهم ابناء المناطق الريفية المحيطة ببني خداش ليتدربوا على مسرحية جديدة ضمن «مسرح الميم».
أطفال لم تتجاوز اعمارهم الخامسة عشر عاما يعشقون الفن لم تثنهم المسافات الطويلة فوفر لهم استاذهم صحبة مدير دار الثقافة بني خداش سياراتهم الخاصة لجلبهم للتمارين وتشجيعهم على الابداع فتم غرس بذرة الفن عند هؤلاء وستزهر حتما مواطنا صالحا محبا لوطنه كما قال عبد الحكيم الصويد.
على يسار الداخل الى فضاء وطن ستار اسود كبير خلفه ركح صغير او ما يسمى بمسرح الجيب، ركح احتضن عرض «الزمة» وسيكون “فرصة لملاقاة ابناء المدينة مع اعمال أخرى كما قال حمزة خلف الله.
كل شبر من فضاء وطن زين بكتاب، مكتبة محترمة العدد والنوع جمعت الشعر والروايات والمجلة والدراسات المسرحية، هي مكتبة حمزة خلف الله وعبد الحكيم الصويدي الخاصة خيرا وضعها امام رواد الفضاء للقراءة والاستمتاع بما كتب في المسرح والفنون الأخرى حنا مينة وتوفيق الحكيم و نيتشه والمسعدي جميعهم اجتمعوا في فضاء واحد وهدف أوحد هو محو الضلالة عن رواد الفضاء، الجولة داخل “الوطن” الصغير و كأنها جولة بين كلمات الشاعر جمال الصليعي في قوله:
نحن الحياة نحن الناي والطرب لنا المساء بما يبقي وما يهب
اشراقة الفجر وشوق في الحلم في غدنا وظلمة الليل كحل في العين ينسكب
وثورة الريح اعتى في دخائلنا وان صفّقت بجناح ريشه طرب
فنحن كل بهاء الكون مختصرا وما سوانا سراب حسنه كذب
وأكد عبد الحكيم الصويدي انّ (وطن) انطلقت عندي كالحلم حين كنت ادرس في المعهد العالي للفن المسرحي حينها حلمت بفضاء خاص في بني خداش وهي عادة غير موجودة في جهتنا وهدفنا الرئيسي احتضان المبدعين والموهوبين الذين لا تظهر مواهبهم الا عند الوصول الى المدينة، الفضاء حاضنة لهم ولإبداعاتهم نحاول تاطيرهم وتوفير فضاء مخصص لإبداعاتهم، نحاول ان نقدم انشطة دورية مع المسرح الى المالوف والطربيات فملتقيات لنادي الكتاب والمعارض والفضاء مفتوح لكل عشاق الحياة لأننا نريد ان يشعر الرواد ان بني خداش وغيرها من المدن الداخلية فضاءات يمكن ان تمارس فيها الثقافة كما المدن الكبرى.
وفضاء الوطن الثقافي رمز للوطن الكبير هو رسالة قال عبرها المسرحيان صاحبا المشروع ان كل جزء من هذه الربوع يزخر بالطاقات والمبدعين فبني خداش مدينة عدد من المسرحيين على غرار خالد اللملومي وكريم الخرشوفي وهي مدينة المناضل مصباح الجربوعي وفي كل شبر من الجبال يوجد من يؤمن بأهمية الفنون في التغيير ولكن ينقصهم بعض الدعم ليحلقوا في سماء الثقافة وليثبتوا الرغبة في التميز وشعارهم “ان تشعل شمعة افضل من ان تلعن الظلام” فهل ستلتف السلط الجهوية والوطنية لهذه المشاريع ذات النفس التربوي والثقافي وتدعمها علاها تحمي الصغار من خطر البطالة والعدم؟ فالثقافة في المناطق الحدودية الجبلية جد هامة وتتطلب مجهودا اضافيا أكثر من المدينة لان هذه المناطق مهددة بالتطرف الفكري والإرهاب و شعار الفضاء هو ان الثقافة ستكون الحامي الاول لأبناء المناطق الجبلية من خطر الدمغجة والتطرف وان غابت الدولة كما صرح مدير فضاء وطن عبد الحكيم الصويد.
في بني خداش جمال الطبيعة والفن
تقع بني خداش في الجنوب الشرقي للبلاد التونسية وهي منطقة جبلية تنتمي لسلسلة جبال مطماطة وتتميز بصعوبة مسالكها، فهي ارض وهاد وأحراش وأوعار وجبال وهضاب وأودية موسمية كوادي ابن خشب ووادي الحلّوف ووادي الخيل.
كما تتميز هذه المنطقة بكثرة انجراف تربتها نتيجة انحدار السيول من الجبال والسيول: جبال كانت وسيلة لتنفيذ العمليات الفدائية والكر والفر مع قوات المستعمر الفرنسي و«بني خداش» هي بوابة الصحراء في الجنوب الشرقي لتونس وهي منطقة وسطى بين «سهل الجفارة» شرقا ومنطقة العرق الصحراوي غربا كما جاء في كتاب بني خداش وجيرانها عبر الحركات النضالية لعمار السوفي.
في بني خداش توجد العديد من القصور التي استعملها السكان في الفترة الحسينية لخزن المحاصيل الفلاحية والصوف، قصور اصبحت اليوم مزارا للسياح وللراغبين في التمتع بجمال الصحراء وسكونها وحكاياتها.
غير بعيد عن بني خداش المدينة يوجد احد هذه القصور «قصر الجوامع» ، صاحبه حافظ على بنيته القديمة مع تحصينات لم تفسد مظهره لا الخارجي ولا الداخي، قصر الجوامع تحفة اثرية وسياحية يزورها محبو الصحراء ومن يريد الاستمتاع بسحر خاص والوان مميزة لا توجد الا في الصحراء التونسية وعن القصور الموجودة في الصحراءيمكن الاشارة الى انّ الامازيغ استوطنوا هذه المنطقة منذ القدم حيث اقاموا مساكن منحوتة في الجبال، وشيدوا قصورا على قممها تحصنا من غارات الأعادي فأورثوا لسكان بني خداش القصور فلا تكاد تخلو منطقة من مناطق بني خداش من وجود قصر حسين مثل قصر الحلوف و قصر زمور وقصر الفجيج و قصر الجوامع و قصر الخراشفة و قصر الجراء وقصر أولاد مهدي وقصر المحاضنة.
وتكون بني خداش لا مجرد قرية جبلية محاطة بالجبال بل ارض للثقافة والنضال فهي ارض الملاحم ومعركة «ميطرة» التي تغنت بها مجموعة «عبيد قبنطن» والتي استشهد فيها مصباح الجربوعي دليل على مساهمة تلك المناطق في معركة التحرير.
سأراقص كل الرياح وأغازل كل الامواج سأتحدى رياح الجهل وعواصف الفقر الثقافي سأواصل فتح أبوابي لعشاق ا لفن والحياة من داخلي ستخرج اجمل الالحان وأجود القطع المسرحية، حيطاني الصغيرة سهرات لهب الامل والجمال وان كانت الرياح عاتية ورمال الصحراء شديدة و قسوة الجبال لن تجتثني من جذور بني خداش ، تلك هي رسالة فضاء «وطن» ذاك الوطن المصغّر المليء املا بثقافة ستزهر يوما في ربوع الجنوب التونسي.