إشارة تونسية من السيدة سارة :
« حكايا ومواقف وتفاصيل متشعّبة هزّتْ كياني كلّه وجَعَلتْ كل ما رَبيتُ عليه وانْبنتْ عليه شخْصيتي روحا وفكرا موضِع شكٍّ وعلى شَفا التّقْويض أصْلا...»
1
عامرةٌ هي مَكتبات كلّ الحَضارات الكتابيّة بمتُون حول «آداب العُزلة» و«حيّل الحَرب والسّيْطرة»، العُزلةُ «مُعلّم عنيفٌ للحقيقة» كما قِيل في «كتب الحِكَم والأمْثال» عن الحَرْب, والحرْب التي هي «امتحان للقُوّة بأسلحة مختلفة... « كما العُزلة تتّخِذُ لها أشْكالاً مُـختلفة . غاية كل من العُزْلةِ والحرْب الظّفَر والسيْطرة. غاية «الحرب» السيطرة على «الآخر» بـإخْضاعه لإرادتي, وغاية «العُزلة» السيطرة على ذاتي.. للظّفر بها وتحْصينها من التَشّتُتِ والضياع الأكيد. وأنا في عزلتي الساحلية وطّنْت نفسي على تصَفّح الكُتُب لغاية المطارحة مع «فحول العقول» والسير مع «بنات أفكار النساء و الرّجال» من كل الثقافات والأزمان ,,,
2
اذا مَلَلْتُ من قراءة كتاب أفتح كتابا آخر.. وإذا تعبتُ من قراءة الكتب أتصفّح «كتاب نفسي» أو أفتح كتب وجوه «صديقات وأصدقاء الفايسبوك». لقد صادف أن فتحت كتابا ثراثيا عنوانه «التنبيه على حدوث التصحيف» لحمزة بن حسين الإصفاني (القرن 4/ه .10م) كنت قد إعتمدت منه نصا في واحدة من «محاضراتي» في ثمانينات القرن الآفل حول «السّلطة وتوزيع اللذات والآلام في الحضارة العربية الإسلامية». وكانت غايتي التنبيه الى خطر ما أسْميته «مِيكانيكا السُّلطة السِياسيّة والتوزيع الإعْتباطي للعُنف».
3
لقد دُهِشْتُ من مدى أهميّة و راهنيّة هذا النص ومدي أهمية وخطر وخطريّة وخطورة «كتاب التنبيه على حدوث التصحيف» في موضوعه. لقد ورد في «المتن» الواقعة السَرْديّة التالية حول ممارسة «المراقة والمعاقبة». فأية واقعة ؟ «ان سليمان بن عبد الملك كتب الى عامله بالمدينة: «احْصِ اُلْـمُـخنثين قِبلك فوقَعَتْ من قلم الكاتبِ نقطة على الحاء فجعلها خَاء , فلما ورد الكتاب على والي المدينة قرأ كاتبه :اخْص المخنثين فقال له الأمير : لعلّه إحْصِ , فقال أيها الأمير إنّ على الحاء نقطة فأمر الأمير بإحْضار المخنثين للخَصاء فتهارب أكثرهم ووقع أقلهم فكان من مشاهير من وقع «طُويس» و«الدّلال» و«برد الفؤاد» و«نومة الضّحى» و«نسيم السّحَر» و«ضرة الشّمس» و«لُعْبة العَاج» وعّدةٌ أُخر.فأما طويس فقال لما خصي: ما عملتم شيئا فبالخصاء اسْتكملنا الخُناث وقال «الدّلال» : ظلّ سعْيكم هذا هو الخِتان الأكبر المطرف لولوج الكَـمر وقال «برد الفؤاد» : بُعْدا وسُحقا لما صِرنا به نساءً حقا وقال «نومة الضّحى» : ما كان أغناني عن سلاح لا أقاتل به وقال «نسيم السّحر»: ما سلبتوني إلا ميزاب بولي» وقال صاحب «التنبيه على حدوث التّصْحيف» : فأعجبُ بنقطةٍ أدْخلت رِجالاً في عداد النّساء... « فكم هي قاسية هذه التدابير السياسية في مراقبة « الفضاء العام» ..وكم هي ساخرة أجوبة « المخنثين . يمكن أن تكون السخرية السّلاح الجمالي المبيد لسلطة المستبدين والفُتّاكِ , سلطة الجهلوت العضوض . لقد اعانت السلطة السياسية بتبذيرها للعنف ضدّ « المخنثين « على استكمال» هوياتهم الجنسية « حين قامت بخصيهم ... بينما هي التي قامت بخصي نفسها وبتر «هويتها» دون وعي منها حين أسكرتها قوتها . وقديما ورد في الاوراق القديمة « سُكْر السُّلطان أشدّ من سُكر الشراب» . ضحكت كثيرا,,, وحَزَنْت كثيرا . طويت كتاب» التنبيه على حدوث التصحيف « وفتحت كتاب « الفايس بوك « فكان ما كان أن ساقت الأقدار الرّقمية أمامي واقعة سردية بقلم تونسية , واقعة سردية عضّت قلبي فأطارت أطيار نومي , انها أوْجاعُ تونسيّةٍ حُرّة اسْمها سارة أم أُسَاف وبلقيس.
4
كتبت «أم أُساف» :«طول عمري عشت متألمة ومهزوزة المشاعر فقط لأني إنسانة حسّاسة وتحكم فيّ كلمة أو موقف بسيط ..الباهية نجنح بيها ونطير ..والخايبة تهبطني لسابع أرض ...
حنينة وكريمة حد البذل من روحي وفكري ورزقي وزمني من دون حساب وحتى على حسابي ...
صاحبة مبدأ وكلمة ..ما نحبش العيب ..ما نحبش الإساءة وحتى كيف تبادر وتئذيني أتألم وأنسحب في صمت ..ليس ضعفا وإنما لأني أومن بأن الأشرار لا ينفع معهم لوم ..ولا متعة لي في الإنتقام ...
للأسف ولسوء حظي أني في سنواتي الأخيرة وخاصة بعد وفاة المرحوم زوجي أرتني الحياة أسوأ وجوهها وواجهت أسوأ المواقف ..وكنت وحدي ثم وحدي ووحدي واجهت وُطيّا ونذالة للبشر والأقدار تهتزّ لها الجبال ودكّة غسل الموتى...
وزادتني أوجاع ذا الوطن وجعا على وجع كان قد سكنني منذ رحلت عني طفولتي ..حتى أني حين أتيحت لي ذات أزمان فرصة الرحيل عنه لم أرم خيانة شمسه الحارة وزيتونات فيه زرعت وربيت باليدين ..كان المطر في باريس يبكيني غربة ويجعلني أردد حسدا :» أدعو لأندلس إن حوصرت حلب «رغبة مني أن تسخو سماء بلادي كما سماء باريس مطرا يروي منا الروح والتراب...
كان جمال باريس كمدا يبكيني خراب هذا البلد... لا السماء ولا خلفائها في بلادي رحموا هذا الوطن..
صدمات وأوجاع وآلام لم تكن روحي بحجم ثقلها ....و وجدتني أستعين بأطبة النفس والأدوية المضادة للإكتئاب وهربت للغياب والخدر ....
وصار الجحيم جحيمان ...!
حكايا ومواقف وتفاصيل متشعّبة هزّتْ كياني كلّه وجعلتْ كل ما رَبيتُ عليه وانْبنتْ عليه شخصيتي روحا وفكرا موضع شك وعلى شفا التّقْويض أصْلا ...
ما هذا ؟؟!! ما هذا ؟؟!!
السيّء في كل هذا هو المفترق الذي وجدتني فيه : أتخلى عن الطينة التي منها قددت وأعيد تشكيلي بحسب وضاعة الموجود فأسلم من ألم صدمات الروح والفكر؟!! ...أم أبقى على ذا الحال وما روحي بحمل لذات الوجع... ؟!!!!
لن أسلخ جلدي ولن أتخلى عن طينتي وسأحفظ بداخلي كل قيمي ومبادئي ...
فقط أقول لي : ما دام كل الذي واجهت لم يسقطني أو لم يجعل من التراب سكني .. سأدوس على الأرض بقدم ثابتة وفكر صاح بعد غفلة ...لن أبادر بالإساءة ...لكني سأرد الإساءة بأخرى وأخاطب كلا بما يفهم ... في يومي الرابع بدون أدوية مضادة للإكتئاب أحسني سعيدة بقرار التخلي عنها نهائيا ومواجهة الحياة ومصيري ومصير يتيمتا أبيهما أساف وبلقيس ..وسأفتك لهما الأفضل..» هكذا كتبت التونسية الحرة ..أم أُساف.. فكتبت لها معلقا على عجل ما كتبت ...؟
5
موجع هذا الوجع . لقد اعتصرتِ الحَال الخاص ليذهب لتشخيص أحوال الحال العمومي العام بين الناس . الغريب يا سيدتي حفيدة المتنبي إن « تكسّرت النصال على النصال» على رأي جدك « شهيد دير العاقول « الشاعر المتنبي مع ذلك بقيت مواطن للتفجع والألم ... موت الزوج _ رفيق الرحلة يتمٌ موجع وان هو حي يرزق أحيانا / موت الأم والأب يتم موجع / موت الصداقة والحب يتم موجعٌ , وموت الأمة,,, يتم موجع وموت الوطن في الذات هي ميتة الميتات على الإطلاق أو هكذا يبدو لي / انتِ حسمت الأمر يا أم الأبناء فهنيئا لك ... ولزوجك بك حيا وراحلا ... ثمة مثلي من بقي ينُوس بين قُطبي : المحو والإثبات ... والذاكرة و النسيان . أن تكون الواحدة أنثى ليس مزيّة وأن يكون الذّكر ذكرا ليس مزيّة لكن أن تكون الأنثى البشرية امرأة فتلك مسالة اكتساب وتدّرب على قيمة الحرية .. وكذلك الشأن بالنسبة للذكورة والرجولة .. وبالمناسبة تقول اللغة العربية عن المرأة : امرأة رَجلةٌ, وأنت تونسية رَجْلة ... شدّ لك سيد الأكوان في «الفلذات».. فلذات الأكباد منك ومن الراحل في كتاب الكون والرحمة من سيد الكائنات .
دُمت دُرّة تونسيّة حرّة ما أمْكن الدّهر.
6
ان الخَصاء الأكبر الذي يـُمْكِن أنْ يُوهن الشّعوب والحضارات فيذْهَب بـِريحِها ورُوحها إنما هو الخَصاء الذّهني ,,, اُلْفِكْري ,, والعَاطفي الذي « يعيّفنا في أرواحنا « وفي» الحياة» وفي الوطن ,,, وليس مجرد الخصاء الجنسي الجسدي . سلام ما أمكن السلام ...ووردا إنْ أزْهر الربيع ...