جالطة والحريق وشجرة الخروع

هناك حدث جلل لم توله وسائل الاعلام التونسية وخاصة المرئية منها اهتماما ويتمثل في ان حريقا هائلا تواصل ايام 5 و 6 و7 اكتوبر واتى على ثلثي جزيرة جالطة (قرابة 550 هكتارا ) .

زيارة ميدانية قام بها مؤخرا الى المكان ممثلون عن وحدة التصرف في المحميات البحرية والساحلية بالشمال والجمعية المتوسطية للانشطة البديلة عادت بصور وارقام اولية حزينة …

ما زلت اتذكر زيارتي الى ارخبيل جالطة بمعية فريق تونسي فرنسي وذلك لمعاينة مدى تقدم اشغال تهيئة قامت بها وكالة حماية وتهيئة الشريط الساحلي بدعم مالي فرنسي وتمثلت اساسا في ترميم وتهيئة مجموعة من المباني التاريخية مثل المنزل الذي قضى فيه الزعيم بورقيبة اكثر من سنتين منفيا وايضا من اجل فتح ثلاثة مسالك تمكن من زيارة اغلب ارجاء الجزيرة الام .
من الذكريات التي بقيت عالقة في ذهني من تلك الزيارة هي شجرة «الخروع» البرية ذات الاوراق الكبيرة والمستديرة و التي اختارت ان تنبت بمحاذاة مقر اقامتنا الذي كان علىضض ربوة مطلة على البحر .

لم تكن الشجرة في حد ذاتها نادرة ويمكن ان نشاهدها على حواف طرقاتنا الجهوية ولكني اكتشفت في تلك الزيارة التي كانت في عز فصل الصيف (شهر اوت) وجها اخرلها لم اكن اعرفه .

اتذكر جيدا اننا عندما كنا ناوي الى مقر اقامتنا في فترة القيلولة كنا نستمع الى صوت شبيه ب «فرقعات « صغيرة صادرة من الخارج وفي فترات متواترة وعند التثبت تبين ان الشجرة كانت تلقي بثمارها الجافة على الارض بعد ان تطرح عنها وبصفة طبيعية قشرتها الخارجية :ربما تبدو الحكاية عادية ولكن في جزيرة هادئة وخالية من الاصوات «الدخيلة « كان الحدث ذو جاذبية خاصة وابعد من ذلك كانت تلك وسيلة الشجرة الطبيعية لانبات اشجار اخرى من نفس فصيلتها اذ ان كل ثمرة جافة يمكن ان واتتها ظروف معينة ان تتحول هي بدورها الى شجرة خروع .

لذلك كان اول شيء سالت عنه بعد الحريق الاخير هو تلك الشجرة التي كانت ترمز بالنسبة لي الى استمرار الحياة بصفة عفوية ودون تدخل بشري و قد شعرت بارتياح نسبي (رغم كل شيء ) عندما اعلمني السيد حسن الزغدودي ممثل وكالة حماية وتهيئة الشريط الساحلي ان منطقة «القرية « بكاملها تقريبا لم يشملها الحريق (وطبعا شجرة الخروع) .
اخترت ان ابدا مقالي بشجرة «الخروع» التي نجت من حريق جالطة لامرر رسالة امل واذكر بان الطبيعة تجد دائما طريقها لاعادة الحياة شريطة توفير الحماية فقط .

من زار ارخبيل جالطة لاحظ بيسر ان الكساء النباتي غير كثيف اصلا (ما عدى غابة الصنوبر الحلبي الاصطناعية ) اذا قارناه بجزيرة زمبرة مثلا على الرغم من ان معدل التساقطات المطرية هو1000 ملم سنويا وربما تكون لذلك اسباب تاريخية اذ ان الجزيرة كانت منذ الازل وحتى حدود ستينات القرن الماضي ماهولة وما لانشطة التحطيب مثلا من تاثير سلبي على نمو الاشجار وربما هناك اسباب اخرى منها الحريقين الكبيرين الذين عرفتهما الجزيرة الاول في بداية القرن العشرين والاخر في ثمانينات القرن الماضي والذين اعاقا تطور نمو الغابة الطبيعية .

وقد قامت الادارة العامة للغابات اثر الحريق الثاني بعملية تشجيرشملت اساسا اشجارا غريبة عن الوسط الطبيعي (الصنوبر الحلبي ) ومعروفة علميا انها سريعة الاشتعال وذلك على الاراضي التي كانت تستغل للزراعة من قبل الجالية الايطالية المقيمة وقد كان هناك تخوف وتوجس وجدل عند زيارتي الاولى حول مدى جدوى هذه الغراسات وخاصة حول مدى ارتباطها بنشوب حريق جديد وقد اتت الملاحظات الاولية بعد الحريق الاخيرربما لتاكد هذه المخاوف اذ ان تسعون في المائة من غابة الصنوبر لحقها الضرر منها ستون في المائة من الاشجار احترقت بصفة كلية .

اقول هذا لاني قرات اخيرا تعليقات كثيرة على صفحات الفايسبوك من متحمسين حول ضرورة اعادة تشجير جالطة وان كل زيارة مقبلة ستحمل معها متطوعون لانجازهذه العملية وانا اقول ان حسن النوايا في هذا الموضوع يضر اكثر من نفعه وانه يجب الامتناع عن اي تدخل بشري حتى من قبل الادارة العامة للغابات واعطاء الفرصة الكاملة للطبيعة كي تجدد نفسها بنفسها خاصة انها تتمتع بحماية طبيعية لبعدها عن القارة (يعتبر الجزء التابع الى قارة افريقيا الاكثر شمالا ).

وعن اسباب الحريق ترجح المؤشرات الاولية انها ناتجة عن صواعق ولكن وجود 28حريقا تضع اكثر من سؤال حول الاسباب الحقيقية للكارثة ولذلك فنحن ننتظر تحقيقا اكثر عمقا في المسالة من طرف فريق مختص من اطارات الحماية المدنية لمعرفة الحقيقة خاصة وان زيارة ثانية مبرمجة بمشاركة الادارة العامة للغابات ومختصين من جميع المجالات لتقديم معطيات علمية دقيقة عن الخسائر واقتراح حلول ممكنة .

طبعا الصور التي نشرت بعد زيارة المعاينة الاولى مؤلمة اذ تظهر جزيرة شبه محترقة بالكامل فالتقديرات الاولية تشيرمثلا الى ان ثلثي الغابة الطبيعية (حوالي 160 هكتارا) احترفت بالكامل وهي متكونة اساسا من شجيرات الريحان والقضوم ونباتات عطرية مثل الاكليل والزعتر والملية والخلنج.
ولم تسلم ايضا نباتات الديس التي تغطي مساحات كبيرة والتي يدل وجودها على افتقار التربة .

وبالنسبة للاشجار احصى الفريق المعاين تضرر 86 شجرة زيتون «جالي «منها احتراق 37 بالكامل اما الاشجارالمثمرة التي زرعها سكان جالطة وخاصة الجالية الايطالية فقد لحقها بعض الضرر هي الاخرى وشملت 5 اشجار تين و42 شجرة زيتون منها 5 احترقت تماما وشجرة مشمش واحدة.
ومن الصور الاكثر ايلاما هي صور السلاحف البرية المحترقة التي وجدت نفسها محاصرة وسط النيران دون امل في الهرب وقد وقع تعداد اكثر من 180 جثة (اعدادها بالجزيرة بين 1000 و1200 )

وجالطة هي قبل كل شيء قصة تمازج قديم بين الطبيعة البكروالوجود البشري ففيها يمكن مشاهدة مغاور منحوتة مباشرة في الصخور سكنها الانسان القديم واثار خزانات مياه تعود على الارجح الى الفترة الرومانية وايضا بقايا قرية «حديثة « سكنتها جالية ايطالية غادرت المكان اثر تاميم الاراضي الفلاحية في ستتسنات القرن الماضي بعد ان استقرت لاكثر من 70 عاما.
ونظرا لموقعها المتميز فقد كانت دائما موطن استراحة وتزود بالمياه سواء بالنسبة للطيور المهاجرة الى اوروبا في فصل الربيع او العائدة الى افريقيا في فصل الخريف او ايضا للتجاروالقراصنة قديما او لقوارب الصيد او الترفيه حديثا .
وهي ايضا قصة صقور» اليونور» الطيور المميزة للجزيرة التي تاتي الى جالطة من جزيرة مدعشقرمن اجل التزاوج والذي يضفي طيرانها المرتفع في سماء الجزيرة في فصل الصيف رونقا خاصا.

وهي جزيرة المناظر الطبيعية الخلابة التي تستطيع العين ان ترى في نفس الوقت تنوع تضاريس الجزيرة الام والبحر وجزر الجاليتون حيث المنارة والفوشال من جهة الغرب اوجزر قالو وقلينا وبولسترو من الشرق .
ومن اجل هذا واشياء اخرى نتمنى ان يقع العمل في المستقبل من اجل حماية ارخبيل جالطة اولا بتدعيم وسائل عمل الفرق العاملة على عين المكان وايضا و اساسا بالتحكم اكثر في الزيارات ذات الطابع السياحي فانا اقترح مثلا ان يقع تحديد عدد اقصى للزيارات في كل سنة وان تنفتح الزيارات اكثر على غايات تربوية ثقافية وعلمية وان تكون مؤطرة من طرف وزارة البيئة...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115