الى العصيان المدني كرد فعل على تفاقم الأزمة الايكولوجية (تغيرات مناخية و تلوث عارم) وعجز الحكومات المتعاقبة على اتخاذ إجراءات جريئة لتجنب الكارثة الكبرى …
يبدو في الظاهر ان الأمر شان داخلي فرنسي ولكن في الحقيقة ولمن يحسن قراءة معطيات الحاضر فان المسالة تهمنا ايضا : اولا لان الأزمة الايكولوجية هي أزمة معولمة يعني انها تهم كل شعوب الأرض بدون استثناء وتقريبا بنفس الدرجة : فنحن في تونس نعيش ومنذ أكثر من شهرين جفافا يصنفه المختصون كأحد مظاهر التغيرات المناخية ويرجح ان تكون له انعكاسات سيئة في الآجال القريبة
وأيضا على المدى المتوسط و البعيد ليس فقط على مجال الفلاحة ولكن أيضا على مجالات أخرى كثيرة.
ثانيا صدرت الرسالة الفرنسية في ظرف تونسي خاص وهو إعطاء الثقة لحكومة الفخفاخ مع ما تعنيه هذه الرمزية قنحن عادة نأمل و مع تنصيب كل حكومة جديدة قدوم وعي وأفكار جديدة نابعة من فهم صحيح للواقع خاصة ونحن نتكلم عن ضرورة تغيير منوال التنمية .
أعود الى الرسالة لاترجم مقتطفات قصيرة منها .
تبدا الرسالة بتوصيف عام للوضع اذ تقول :
«مهما كان مجال اختصاصنا فاننا نشهد على نفس التشخيص وهوانه و في العشريات الاخيرة نسجل عجز الحكومات المتعاقبة غلى اتخاذ إجراءات وقرارات قوية وعاجلة للتصدي للازمة المناخية والايكولوجية ذات المنحى الاستعجالي جدا» .
تقوم الرسالة اثر ذلك بسرد بعض مظاهر الازمة من تتالي الكوارث الطبيعية ذات الاسباب المناخية الى الانقراض غير المسبوق للكائنات الحية (نعيش زمن الانقراض السادس) مرورا بالتلوث العارم (مبيدات فلاحية ,بلاستيك ,معادن ثقيلة …) .
يعرج كاتبو الرسالة اثر ذلك لتفسير خطورة التغيرات المناخية اذ يسجلون ان كل ارتفاع بدرجة واحدة في معدل درجات الحرارة سيجلب مزيدا من الكوارث وسوف يدخل العالم في سلسلة من الاستتباعات التي لا يمكن تدارك نتائجها الوخيمة لاحقا وانه لو تواصلت معدلات إطلاق ثاني أكسيد الكربون CO2 في الجو بنفس الوتيرة (نتيجة مواصلة حرق مزيد من الطاقات الاحفورية) فان التقارير العلمية تقول ان درجة حرارة سطح الكرة الارضية سوف ترتفع بنحو خمس درجات مما سينجر عنه ان فرنسا سوف تصبح منطقة غير قابلة للعيش علما وان توصيات مجموعة علماء الامم المتحدة حول المناخ GIECهي عدم تجاوز الدرجتين (مع توصية خاصة بعدم تجاوز الدرجة والنصف) .
يقول العلماء الموقعون على الرسالة :
«لا يمكن للمجتمعات الانسانية مواصلة انكار تداعيات نشاطاتها الاقتصادية على كوكب الارض دون تحمل تداعيات ذلك» .
«اذا واصلنا على نفس الوتيرة فان مستقبل الجنس البشري سيكون مظلما».
«ان حكومتنا تصبح شريكة في هذه الوضعية اذا هي اهملت جانب الحيطة ولم تعلم ان نموا غير محدود على كوكب ذو موارد محدودة يؤدي الى طريق مسدود وان مبدأ النمو الاقتصادي الذي تتبناه هو في تناقض تام مع التغيير الجذري للنمط الاقتصادي والإنتاجي الواجب أتباعه فورا» .
إشترك في النسخة الرقمية للمغرب
«ان العشرية القادمة ستكون حاسمة للتقليل من نتائج التغيرات القادمة و نرفض ان يدفع شباب اليوم والاجيال المقبلة نتائج الكارثة الغير مسبوقة التي نقوم بتحضيرها والتي بدانا بجني بعض ثمارها « . «عندما تمتنع الحكومة عن تحمل مسؤوليتها في حماية مواطنيها فانها تكون قد فشلت في مهمتها الأساسية « .
وتبعا لكل ما سبق فان كاتبو الرسالة يدعون الشعب الفرنسي الى المشاركة في اشكال العصيان المدني التي تتبناها الجمعيات البيئية التاريخية مثل «أصدقاء الارض» او «السلام الاخضر» او «كنفدرالية القرويين» او المنشاة حديثا مثل «شباب من اجل المناخ» وان يطالبو السلطة السياسية بتبني افعال ملموسة وان يبداو بصفة فردية او في شكل مجموعات في تغيير جذري من الاسفل .
كما يطالب العلماء السلطة بقول الحقيقة حول خطورة المرحلة المقبلة والصبغة الاستعجالية للوضعية ويؤكدون ان نمط الحياة الحالي وفكرة النمو الاقتصادي لا تتلائم وضرورات التخفيف من تداعيات التغيرات المناخية الى حدود مقبولة كما يدعون البرلمان الى تبجيل تبني قوانين ايكولوجية قبل المصالح الخاصة للمستثمرين .
اظهرت الرسالة التي اعتبرها حدثا ثقافيا ذو بعد كوني مرة اخرى الفارق الكبير بين الحقيقة العلمية الدامغة ومتطلباتها من ناحية ووعي السياسيين ودرجة تحمسهم الفاتر للتغيير الحقيقي من ناحية أخرى وهنا أتذكر كلمات Al Gore المدوية التي قالها في إحدى محاضراته « اذا عرفنا الحقيقة فلماذا لا نمر فورا إلى الفعل « او ما تردده دائما الناشطة المناخية Greta Thunberg من ضرورة الإنصات إلى تقارير العلماء اذا اعتبرو انها مازالت طفلة .والرسالة صدرت في فرنسا البلد الذي استضاف قمة باريس للمناخ الشهيرة و»ناضلت» رئاسته انذاك من اجل الوصول الى اتفاق مناخي ملزم لجميع الدول وهو بلد «نيكولا هيلو» المناضل البيئي الذي خاض غمار السلطة من اجل التغيير الجذري فما بالك بدول اخرى.
أظهرت الرسالة كذلك ان الفرق بين بلد مثل فرنسا وبلد من العالم الثالث ليس فارقا «تقنيا» فحسب بل هو بالأساس فارق في درجة وعي النخبة بمعطيات الحاضر وعيش وفهم هذا الحاضر جيدا وما يتطلبه من فعل .
وانا اكتب هذا المقال استمعت إلى المسؤول الاول الجديد عن الطاقة يقول في ما معناه ان» كل الخيارات الطاقية ممكنة في تونس بما في ذلك التنقيب عن النفط وأيضا الغاز الصخري وان الطاقات المتجددة والنظيفة ما هي الا خيار من عدة خيارات لسد عجزنا الطاقي».
ان هذا التصريح خارج عن سياق التاريخ ويدل عن عدم فهم ووعي بطبيعة المرحلة الطبيعية التي تمر بها تونس والعالم واخطر من هذا يدل على عدم وعي بقدراتنا الكبيرة لإنتاج الطاقات المتجددة وأنا أقول أن هذا التوجه لا يستطيع أن يضيف إلى بلادنا أي شيء .
واخطر من هذا فان كلا م هذا الوزير يتناقض مع ما ورد على لسان رئيس الحكومة في خطاب نيل الثقة في البرلمان والذي نعت احد مشاريعه السبعة الكبرى لدخول القرن الواحد والعشرين ب «ثورة الطاقات المتجددة».
هناك اليوم في العالم جدل وضغوطات كبيرة تقودها نخب في دول متقدمة اساسا موضوعها الأساسي ضرورة استعجال القطع مع منوال التنمية القديم القائم على مفهوم النمو والبدء بإرساء اقتصاد جديد سمته الاساسية استدامة العيش الكريم للإنسان على كوكب الأرض ولكن وككل فكرة جديدة وثورية فانها تلاقي صدا من قبل» المحافظين» او المنتفعين من النظام القديم وهؤلاء أساسا هم أصحاب رؤوس الاموال والاقتصاديون الذين لن يقبلوا بسهولة إعادة صياغة مفاهيم جديدة ونظريات أخرى للنشاط الاقتصادي وهؤلاء هم من يؤثرون اليوم بصفة فعلية في القرار السياسي في العالم .
كتونسي أتمنى أن يكون السيد الياس الفخفاخ قد قرا الرسالة الفرنسية وأيضا هذا المقال في مرحلة أولى وان يفتح في مرحلة ثانية نقاشا وطنيا يكون موضوعه شكل النشاط الاقتصادي في تونس في العشريات المقبلة في ضوء المعطيات الجديدة للحاضر وأهمها الأزمة الايكولوجية الحادة والخطيرة.
وفي انتظار ذلك تستطيع الحكومة ان تبدا بشيء رمزي وهو بداية تكريس فكرة «ثورة الطاقات المتجددة» على ارض الواقع وبداية التخلي عن فكرة البحث عن طاقات احفورية في المستقبل …