خلاصة هذا المنبر الذي كان نتيجة تجاوب جميل بين مسؤولي تحرير صحيفة «المغرب» ومقال بيئي نشر لكاتب هذه السطور قبل ست سنوات …
اعترف بعد هذه السنوات بالجميل لاصدقائي الذين سمحوا لي ( ولغيري) بان اعبر بكل حرية عن مواقف واراء تعتبر في بعض الأحيان «غريبة» في زمن طغت فيه عقلية «الغاية تبرر الوسيلة» وأفكار أخرى يروج لها ليلا نهارا على انها الحل السحري لكل مشاكلنا مثل «حرية الاستثمار» رغم ان الواقع اثبت ان هذه «الحرية» كانت «مطية» لادخال صناعات واشكال انتاج ملوثة اضرت كثيرا بطبيعتنا وصحتنا .
اول مقال بيئي صدر قبل ست سنوات صور الاسرار الطبيعية لجزيرتي زمبرة وزمبرتة ولكننا لم نكتف في مقالاتنا اللاحقة بالتعريف بجماليات تنوعنا البيولوجي بل تجاوزنا ذلك الى التحذير والتنبيه الى الأسباب الحقيقية التي تهدد استدامة الوسط الطبيعي الذي هو في الحقيقة مصدر غذائنا ودوائنا وترفيهنا و …
اليوم وللأسف الارض لم تعد المغذي لما ناكله بل أصبحت مجرد « وعاء فيزيائي» لانه وببساطة وقع «قتل» كل ما هو حي في الأرض بواسطة مواد وممارسات روج لها طويلا على انها هي الأفضل لفلاحة «عصرية « وهي أساسا الادوية الكيميائية والحراثة العميقة ولذلك أصبحت «المخصبات الكيميائية «(يستعملها الارهابيون لصناعة المتفجرات) ضرورية لانبات المحاصيل وبدونها فان لا شيء ينبت .
والنتيجة الحتمية ان كل ما ياكله التونسيون اليوم هو مجرد خليط من المواد الكيميائية ولهذا زادت الامراض وزادت معها متاعب الناس.
نظريا الحلول البديلة من اجل فلاحة تعيد عذرية الأرض وتحترم صحة الانسان موجودة ولكن لا يبدو انها أولوية من الأولويات الأولى للدولة التي يبدو انها تهتم أكثر بأشياء «سخيفة» مثل «كمية الإنتاج» والبحث عن أسواق للتصدير وأيضا عن مزيد «تعصير» الفلاحة مع ما يعنيه ذلك من مزيد جلب للمواد الكيميائية .
ولذلك كان صوت هذه الصفحات عاليا وفي كثير من المقالات من اجل كشف الحقيقة كاملة ومن اجل دعوة المسؤولين عن هذه الدولة الى تحمل مسؤولياتهم .
والمشاكل البيئية التي تمس مباشرة حياة التونسيين لا تتوقف عند هذا الحد :
هذه الأيام يقوم اصدقاؤنا في جمعية احباء الطيور بتعدادهم السنوي للطيور المائية المشتية في مناطقنا الرطبة الطبيعية مثل السباخ وأيضا الاصطناعية مثل السدود والملاحظة الكبرى التي وردت على السنة اغلب المشاركين في هذه الحملة السنوية ان مستوى مياه اغلب السدود في الشمال والوسط متدنية جدا في فترة من السنة (فصل الامطار) من المفروض ان تكون فيها مواردنا المائية المخزنة في اعلى مستوياتها .
السبب واضح وكان منتظرا وهو نقص الامطار الناتج أساسا عن التغيرات المناخية التي بدات اثارها تشمل كل دول العالم ومنها بلادنا والسؤال الملح هنا هل للدولة خطة للتاقلم مع هذا الوضع الجديد (خاصة الاقتصاد في استعمال مياه الري ) الذي يبدو انه سيتفاقم مستقبلا وأيضا هل لنا كدولة صغيرة خطة للانتقال الطاقي الكلي تجاوبا مع مقررات اتفاق باريس الذي ينص على مساعدات مالية وفنية لفائدة دول الجنوب .
في المدة الأخيرة اشرف رئيس الحكومة على ندوة من اجل تسريع انتاج الطاقات المتجددة في تونس وذلك من اجل الوصول الى انتاج ربع استهلاكنا الوطني في حدود سنة 2030 وهذا شيء جيد ولكن المشكل ان تصريحات مسؤولي الدولة خلال الندوة لا تربط ضرورة انتاج الطاقات النظيفة بالتغيرات المناخية وانما ينظر الى المسالة برمتها كـ«فرصة اقتصادية» لا بد من استثمارها في ظل «عجزنا الطاقي» في إشارة الى تراجع انتاجنا من الطاقات الاحفورية التقليدية (نفط و غاز طبيعي ).
اقتصاد جديد
في ظل مناخ حرية الراي والاحتجاج التي نعيشها منذ سنوات برز الى العيان نوع جديد من التذمر من اجل غايات بيئية تعلق أساسا بمظاهر التلوث التي تضرر منها الكثير من المواطنين في كثير من المناطق كان أبرزها مشكل الفوسفوجيبس بمدينة قابس الناتج على اختيارات قديمة حمقاء تمثلت في تركيز صناعات ملوثة جدا على سواحل ذات كثافة سكانية عالية أولا وثانيا ذات خصوصيات بيئية فريدة فخليج قابس هو مثلا محضنة البحر المتوسط وهي منطقة معروفة بتنوعها البيولوجي البحري وخاصة الأسماك وأيضا بانها الواحة البحرية الوحيدة في العالم ولهذا كان المكان مهيئا طبيعيا لاستقبال نوع جديد من التنمية يكون متناغما مع الطبيعة المحلية ولكن ولان هذا المجال غريب عن الطبقة السياسية «القديمة» فقد وقع وببساطة تحويل الجنة الغناء الى جحيم لمتساكنيها .
ولاجل كل ما سبق فان الواقع الحاضر يفرض علينا طرقا جديدة للعمل وللانتاج تكون سمتها الأساسية المصالحة مع الأرض والانسان وهذا في اطار سياسة دولة وليس في شكل روتوشات او مكملات للتنمية فمثلا لماذا لا يقع ضبط استراتيجية وطنية للانتقال الكلي الى الفلاحة البيولوجية عوض ان يبقى هذا المجال تجريبيا ومحدودا.
خبر مفرح يأتيني وانا بصدد كتابة هذه الخواطر على شكل تصريح إذاعي لاحدى المسؤولات في الدولة وهو إتمام النصوص القانونية للاقتصاد الاجتماعي والتضامني الذي كان أحد أهم مطالبنا في إطار هذه الصفحات …
فهل تكون هذه البداية؟