يشيّد الجسور بين المدن والبشر. ولا تقتصر معارض الفنون التشكيلية على عرض اللوحات والمنحوتات، بل هي حمّالة زمن مؤقّت يتكثّف فيه المعنى ويصبح قابلا للمشاهدة. وفي باريس، حيث اعتادت الذاكرة أن تتعايش مع العابر، يصبح للفن القادم من الضفّة الأخرى للمتوسّط وجها مختلفا ومغايرا. هكذا جاءت "الإشراقة التونسية" في رواق Gallery Art بـVillage Suisse ، من 16 إلى 24 ديسمبر، لتصنع الدهشة الجمالية ولتراهن على الالإبداع في زمن السرعة.
يحيل عنوان المعرض الجماعي "إشراقة تونسية" إلى الضوء بوصفه معرفة، وإلى الإشراق بوصفه تجاوزا للعتمة بفضل الفن. وقد أشرف على تنظيم المعرض في باريس غسان الدريسي فيما تولى الهادي جاء بالله مهمة التنسيق والإعلام.
شمس تونسية في سماء باريس
لا يأتي عنوان «إشراقة تونسية» بوصفه تحديدا جغرافيا، بل باعتباره موقفا جماليا ورؤية ثقافية. فالإشراقة هنا ليست ضوءا عابرا إنما لحظة تتقدّم فيها التجربة التونسية من الهامش إلى مركز الرؤية، حاملة معها تراكمات من الذاكرة والحسّ والأسئلة المفتوحة.إنها إشراقة نابعة من أرض احتضنت الحضارات المتعاقبة، ومن وجدان ظلّ يعيد صياغة ذاته بين المحلي والكوني.
يسلط المعرض الجماعي «إشراقة تونسية» الضوء على فنانين تونسيين تميّزوا في عالم الفن والبحث الإبداعي. ويقدّم المعرض أعمالا تشكيلية تُبرز الواقع التونسي وتأثيره في العالم، كما يضيء إشعاع الفكر التونسي من خلال فنانين ونحّاتين وكتّاب، أنجزوا مسارا بحثيا غايته الغوص في مختلف جوانب التراث والحياة اليومية التونسية، سعيا إلى تطوير الواقع وإعادة إنتاجه فنيا.
وقد شارك في هذا المعرض كل من: الهادي جاء بالله ونسيبة عيّادي ورفيق بوسنينة ومهدي غلّاب وضحى علية ورباب شايبي وهشام باشا وعوني أروى وفاطمة شمّاخ وطيب زيود وأسماء عبد القوي وحمد حاجي ومعاذ بلعيد وسعدية برك الله ونبيل دريدي وزينب نفزي وسارة لافي.
لم يعرض الفنانون المشاركون أعمالهم بقدر ما عرضوا ذاكرتهم البصرية، المشدودة بين تونس بوصفها موطنا، وباريس بوصفها أفقا.
الجسد بوصفه معلّقة معاصرة
في يوم مميز شهد تاريخ 21 ديسمبر احتفالية ذات طابع خاص وروح تونسية خالصة في احتفاء بالفنانين المشاركين في معرض "إشراقة تونسية". وكان الحضور المكثّف ليس مجرّد رقم، بل دليل تعطش لرؤية فنّ لا يشرح نفسه، ولا يطلب الإذن في النفاذ إلى وجدان الجمهور.
ولقد شكّلت الفقرة الأدبية في هذه الاحتفالية لحظة توازن دقيقة بين القول والصمت. فلم يقرأ الهادي جاء بالله وهشام باشا وحمد حاجي وسارة لافي نصوصا مغلقة إنما فتحوا اللغة على احتمالاتها.
وفي افتتاح الاحتفالية، قدّم الفنان التشكيلي رفيق بوسنية عرضا أدّى إلى إرباك جميل في وعي المتلقّي. كان العرض عبارة عن جسد مغطّى ببساط بلاستيكي، تُلقى عليه الألوان، في فعل فني أقرب إلى الطقوس. والجسد لم يكن موضوعا في حد ذاته بل مساحة كتابة. كأنّ الفنان أراد أن يقول إن الإنسان المعاصر، رغم ما يغلّفه من عزل وحدود، لا يزال قابلا للمعنى.
لم تكن "الإشراقة التونسية" محاولة لإثبات الحضور في فضاء أوروبي مكتظ، بل حوار هادئ مع العالم. ويبقى الأثر الحقيقي للفن معلقا في الذاكرة، حيث لا يحتاج الإبداع إلى إطار بل ينفلت من المكان والزمان ليحدّث عن الإنسان أينما كان !