عن فوزها بجائزة أفضل ممثلة في المهرجان الوطني للمسرح التونسي، سرت رعشة خفيفة في الأجساد، ثم انفجرت التصفيقات دفعة واحدة مدوية وقوية وصادقة... وكأنّ الحضور تذكروا معا في لحظة مؤثرة، كل شخصية جسّدتها، وكل وجع حملته أو تبنته، وكل دمعة خبأتها في عينيها على الخشبة أو أمام الكاميرا.
ولأنها سيدة شامخة في كبرياء النخل، فكان لابد من الوقوف لها احتراما وحبّا.. . لقد وقفت القاعة كلها على قدميها في امتنان للأثر الذي تركته هذه الممثلة في قلوب الناس قبل أن تتركه على خشبة المسرح أو شاشة السينما والدراما.
مشت فاطمة بن سعيدان نحو المنصّة - كعادتها- بخطوات خفيفة وهادئة، ولكنها محمّلة بذاكرة طويلة من العطاء، من التعب، ومن الأدوار التي حفرت في الذاكرة والوجدان وجوها نسائية لا تُنسى.
وحين صعدت منصة التتويج، توقّفت لحظة، ونظرت إلى الجمهور، إلى الوجوه التي تنعكس عليها أضواء المسرح، إلى ملامح المخرجين الذين تعاملت معهم أو عبروا في ذاكرتها كأصدقاء قدامى... وقفت فاطمة بن سعيدان وفي عينيها بريق نور حالم وناعم، فسرقت كل الأضواء في تأكيد بأنّ الصدق وحده هو ما يُبقِي الفنان خالدا حتى بعد أن تنطفئ الأضواء.
حين أمسكت فاطمة بن سعيدان بالجائزة، لم يكن الدرع هو الذي يلمع في يدها بل مسيرتها الثرية، وحضورها الاستثنائي، وصدقها الفنيّ... فهي أكثر من ممثلة، هي تجسيد لذاكرة من إبداع فطري وصدق تلقائي ونَفَس مسرحيّ خالص.
ابتسمت أخيرا فاطمة بن سعيدان، تلك الابتسامة المكابرة والآسرة التي لا تحتاج إلى إثبات صدقها، ثم قالت للجمهور: "كم تسعدني محبتكم !" فانفجرت القاعة من جديد بالتصفيق، وكأنّ حرارة الأيادي أرادت أن تقول لها: "بل كم سعداء يا فاطمة بن سعيدان بحضورك الذي فيه شيء من القدسية المسرحية الأولى، ومن نقاوة الركح، ومن نبل الفنّ... "
عن دورها في مسرحية "الهاربات" للمخرجة وفاء الطبوبي، نالت فاطمة بن سعيدان جائزة أحسن ممثلة في اختتام "مواسم الإبداع. والأكيد أن أدائها المقنع والمربك والمدهش.. قد كان من العناصر التي وراء فوز "الهاربات" بالجائزة الكبرى، جائزة أفضل عمل مسرحي.
في "الهاربات" جسدت فاطمة بن سعيدان دور المعينة المنزلية التي تحمل ثقل الحياة الصامتة والصاخبة في آن واحد، فحملت كل أبعاد الشخصية ونفخت فيها من روحها لتأتي صادقة ومقنعة وحقيقية ...
إنّ فاطمة بن سعيدان ليست فقط ممثلة تونسية مخضرمة ، يُحدث حضورها الفارق في المسرح والسينما والدراما... بل هي ذاكرة الفنّ التونسي حين يكون صادقا حتى الوجع، هي ملامح الأمّ التي لا تتجمّل إلا بالصدق، هي المرأة التي تشبه الوطن والحياة في كل الفصول وفي كل الأحوال والحالات.
في أدائها، تمتزج البساطة بالعبقرية، والهدوء بالطوفان، والنعومة بالصلابة.... هي تلك المرأة التي يحتضن وجهها التجاعيد كأنها نصوص صغيرة عن الأدوار التي عاشتها، وعن النساء اللواتي مررن باسمها في شخصيات متعددة ومتلونة.
ولأنها ابنة المسرح قبل أن تكون نجمة الشاشة، وقفت القاعة كلها احتراما لها، فكان المشهد أشبه بوقوف الحياة نفسها لتحيّي امرأة جعلت من التمثيل ميثاق حبّ وصدق ومقاومة.
قد يجوز وصف فاطمة سعيدان بجوكر المسرح التونسي لأنّها في أي عرض أو عمل تشارك فيه تحدث توازنا خاصا كورقة "الجوكر" التي تُرمى في اللحظة الحاسمة لتغيّر مجرى اللعبة، ولأنّها الورقة التي تربح دائما، لا بالمصادفة أو المجاملة، بل بالصدق الحقيقي.