من خلال سَيْلٍ من السِّيَر الذاتيّة التي يتقدّم بها أصحابها بصفة شخصيّة أو عبر أحزابهم أو تنظيمات وهيئات أخرى أو من خلال علاقات ووسائط مباشرة أو جانبيّة.
قد تبدو الظاهرة مقبولة في ظروف عاديّة وفي مراحل سياسيّة تكون فيها الأحزاب وغيرها من التنظيمات والهيئات والشخصيّات قد أثبتت جدارتها بمسؤوليّة الحكم والعمل الجادّ على إخراج البلاد من أوضاعها السلبيّة، ولكن ما أصبح مستفزّا حقّا هو هذا التداول المُفرط على اعتلاء سدّة الحكم وما يصحبه من إنفاق وبهرج السلطة وامتيازاتها بلا جدوى وطنيّة. فالانطباع السائد هو أنّ المصالح والامتيازات التي تستهدفها التحالفات السياسيّة واللوبيّات الاقتصاديّة الداعمة لها هي المستفيد الأوّل والأخير من تعاقب هذه الحكومات في ظلّ أوضاع جدّ دقيقة يعانيها عموم الشعب التونسي وما بقي من قواه العاملة في كدّ وتضحية وصبر انتظارا لثمرة المشاريع وبرامج التنمية التي لا تأتي.
صحيح أنّ المطلبيّة في الأوساط الاجتماعيّة قد زادت في المرحلة السابقة بسبب الوعي المفرط بالحقوق والحرّيّات، لكنّ الأصحّ أنّ الأسعار قد التهبت والمقدرة الشرائيّة قد تدهورت بشكل كبير في ظلّ ضعف أجهزة الدولة وتنامي مظاهر الفساد والاستغلال والتهريب والتجارة الموازية وتراجع قيمة الدينار وارتفاع نسبة البطالة. رغم ذلك ففي تونس اليوم كفاءات وطنيّة حقيقيّة تكدّ في ثبات وصمت متفانية في خدمة الشعب ومؤسّساته في شتّى القطاعات، وهي لا تشعر أنّ لها مزيّة في ذلك لأنّه من الطبيعيّ أن تؤدّي الكفاءة واجبها في اختصاصها ومن موقعها عبر اجتهادها وإشعاعها، فتلك وظيفتها وذاك واجبها.
الأدهى والأمرّ بمناسبة تشكيل الحكومة الجديدة أنّ مفهوم الكفاءة ومفهوم الوطنيّة باتا موضوع مزايدة ووَقْفا على شخصيّات، نساءً ورجالاً، دون أخرى، بعضها في سياق الاتّفاقات والترضيات تُستَدعى من وراء البحار لاعتلاء المنصب في أعلى هيئات السلطة التنفيذيّة، حتّى تبدو هذه السلطة وكأنّها استجابة لرغبة تنظيمات وفئات وشخصيّات بعينها يتمّ تأهيلها لتصبح علامة مميّزة لكفاءة الوحدة الوطنيّة.
تصوّروا معي لو أنّ عضويّة الحكومة ترتبط بسلّم درجات الوظيفة العموميّة ومقتضياته التي قد تسمح ببعض الامتيازات المحدودة قانونا، كما كان معمولا به في مرحلة تأسيس الدولة مع الرئيس بورقيبة، حتّى أنّ بعض الذين تولّوا الوزارة تدنّت أجورهم مقارنةً بوظائفهم السابقة، تصوّروا لو أنّ عضويّة الحكومة ترضخ إلزاما بتصريح دقيق بالدخل وفق مقاييس الشفافيّة في التصدّي لكلّ مظاهر التجاوز والفساد، تصوّروا لو تمّ حذف المنح والامتيازات كمقرّات الإقامة والسيّارات وفواتير البنزين والسائقين والمُعينات المنزليّات والحراسة الشخصيّة وغيرها من امتيازات الأكل والشرب والحقائب، تصوّروا ذلك أو حتّى بعضا منه: هل كنّا لنرى كلّ هؤلاء المرشّحين لعضويّة الحكومة ؟؟ وبهذا الكمّ من ديماغوجيا الكفاءة الوطنيّة ؟؟
مربط الفرس أنّه آن الأوان لتقنين مسألة عضويّة الحكومة باعتبارها تكليفا وفق مقاييس الوظيفة العموميّة بمعايير مُحكمَة يضبطها القانون قد تمنح بعض الامتيازات المحدودة أثناء مباشرة المهنة في ظروف التنقّل والسفر والطوارئ ممّا لا يحدث فارقا أو امتيازا عن سائر موظّفي الدولة من نفس الدرجة، وهو أمر مطلوب أن ترسّخه الديمقراطيّات الناشئة كديمقراطيّتنا في إطار إعطاء الدرس والمثَل في مقاومة الفساد، وسبق أن طبّقته تونس في مراحل سابقة يُبالغ بعض المشتغلين بالسياسة اليوم في اتّهامها بالدكتاتوريّة والاستبداد، ولِنَرَ بعد ذلك مَن سيرغب مستقبلا في المنصب الوزاري ويتهافت عليه ؟
أذكر على سبيل المثال، أنّه في قطاع التعليم العالي الذي أنتمي إليه، كان بعض الأساتذة الذين يتمّ تكليفهم بوزارة يشتكون لأنّ أعباءهم زادت وأجورهم تدنّت، ولم ينقطعوا حتّى وهم في الوزارة عن متابعة طلبتهم في إعداد رسائلهم، وكيف أنّهم مع نهاية تكليفهم يعودون إلى حقل البحث والتدريس الجامعي من جديد، ولا يرون في ذلك مسّا من مكانتهم، أمّا اليوم فبعض زملائي ممّن استوزروا أو حتّى استكتبوا أو استدونوا (من الديوان) أو حتّى كُلّفوا بمهامّ غابوا عن الأنظار واستنكفوا العودة إلى قاعات الدرس والبحث وعناء الإشراف والتأطير وأوجدوا لأنفسهم امتيازات أخرى غنموها من تبعات نشاطهم السياسي والحكومي وظهرت عليهم علامات الثراء ورغد العيش، ممّا يعني بمفهوم خاصّ «للكفاءة الوطنيّة» أنّ عضويّة الحكومة قد تكون لدى بعضهم مطيّة لا غير للترقّي المادّي والاجتماعي الشخصي تضمنه لهم وتدعمه ميزانيّة الدولة المنهكة والشعب المُتعب، أمر يجب أن ينتهي قانونا.
محسن التليلي:
أستاذ تعليم عال بكلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بجامعة سوسة