قهوة الأحد: الشعور بالإذلال والمهانة والعنف في العلاقات الدولية

تمثل العلاقات الدولية احد أهم مجالات الاهتمام والبحث والدراسة في ميدان العلوم السياسية .وقد لعب المختصون والدارسون والباحثون في العلاقات الدولية

دورا أساسيا في فهم تطور العلاقات بين الدول من تطور نزاعات الهيمنة والتوسع الامبريالي الى التعاون والتآخي بين الأمم .وعملت الدراسات في العلاقات الدولية على فهم وقراءة الأسس العميقة للعلاقة الجدلية التي تجمع بين الامم من حيث ارادة السيطرة والهيمنة على الاخر من جهة وحلم الانفتاح والتعدد والتعاون من جهة اخرى .

وككل مجالات البحث في ميادين العلوم الانسانية والاجتماعية عرف ميدان العلاقات الدولية صعود وهيمنة نظرتين أساسيتين لفهم حركية وديناميكية .
من ناحية اولى نجد النظرية الليبرالية للعلاقات الدولية والتي تدافع على تصور طوباوي يرتكز على اهمية التعاون بين الدول لبناء السلم العالمية والمؤسسات الضرورية لبناء قواعد العيش المشترك للتقليص من مخزون الفوضى والعنف في العالم .وتعود هذه النظرة الى أعمال فلاسفة مثل كانط ومونتسكيو وعديد المفكرين في المجال الفلسفي والسياسي والذين أشادوا بدور الانفتاح والتعاون وتطور النظام السياسي الديمقراطي في التقليص من مخزون الخلافات والعنف وبناء أسس السلم والتعاون بين الأمم .وقد شكلت المؤسسات الدولية مثل منظمة عصبة الامم اثر الحرب العالمية الأولى ومنظمة الأمم المتحدة اثر الحرب العالمية الثانية تجسيدا لأفكار هذا التيار الفكري في العلاقات الدولية باعتبار الدور الذي لعبته في الحفاظ على السلم العالمية .
وقد عرفت هذه النظرة للعلاقات الدولية نقدا شديدا من قبل رؤة فكرية اخرى تعرف بالمدرسة الواقعية للعلاقات الدولية والتي عملت على الخروج من المبادئ الطوباوية والليبرالية للنظر الى واقع العالم بتشعباته وتناقضاته .وترتكز هذه الرؤية الى جانب العلاقات الدولية الطويلة والمليئة بالصراعات والنزاعات على اعمال وافكار عديد الفلاسفة ومن ضمنهم هوبس الذي أشار إلى أن واقع الطبيعة هو في جوهره صراع الكل ضد الكل .
وتشير هذه المدرسة إلى ان العلاقات الدولية نتاج لصراع الدول للدفاع على مصالحها الضيقة والتي تقود إلى الحروب والنزاعات التي كانت عنصرا أساسيا في أوضاع العالم .وقد لقيت هذه المدرسة الكثير من النجاح في فترات الحروب وخاصة في فترة الحرب الباردة والصراع الذي دار بين قطبي العالم حينها اي الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي .
إلا أن تأثير هاتين المدرستين الليبرالية والواقعية ، شهد الكثير من التراجع في السنوات الأخيرة مع تزايد التشعب والتعقيد في العلاقات الدولية وفي استراتيجيات الدول ورؤيتها للعالم .وقد دفع هذا الواقع الجديد للعلاقات الدولية العديد من المفكرين والباحثين إلى محاولة كشف عناصر جديدة لفهم حركية العلاقات الدولية وتشعباتها وتعقيداتها .و ويمكن ان نشير في هذا المجال الى عديد الأفكار والمساهمات النظرية ومن ضمنها أستاذ العلاقات الدولية والوزير السابق للخارجية الأمريكية هنري كيسنجر والذي اكد في كتاب لقي نجاحا كبير تحت عنوان "world order" والصادر سنة 2014 بنيويورك وتمت ترجمته الى الفرنسية تحت عنوان "l’ordre du monde" او "نظام العالم " والصادر عن دار "فايار" الباريسية سنة 2016.وقد اكد كيسنجر في هذا الكتاب المهم على أهمية المخزون الثقافي في تحديد استراتيجيات الدول في العلاقات الدولية .
ونحن في هذا المقال بصدد محاولة جديدة لفهم العلاقات الدولية من منظور مختلف من خلال الكتاب الصادر منذ ايام بعنوان "l’humiliation" او "الإذلال" للكاتب Etienne de Gail والذي قدم له وزير الخارجية الفرنسية السابق هوبار قدرين Hubert Vedrine .وقد لقي هذا الكتاب منذ صدوره في الأيام الأخيرة رواجا كبيرا في فرنسا باعتباره قدم مفاتيح جديدة لفهم بعض الحروب وبصفة خاصة الحرب الروسية في أوكرانيا .اما المسألة المهمة في هذا الكتاب فهي تقديمه لفرضية فكرية هامة وجديدة وهي دور الشعر الجمعية (Passions collectives) في العلاقات الدولية وبصفة خاصة الشعور بالإذلال والمهانة والذي يغذي العنف والحروب في عالمنا .
- الشعور بالمهانة في قلب السياسة الدولية
خصص الباحث في الشؤون الجيوستراتيجية Etienne de Gail كتابه "L’humiliation" او "الإذلال" للحديث عن جوانب متعددة ومهمة لتأثيرات الشعور الدفين بالاستياء والمهانة عل العلاقات الدولية .واشار في بداية تحليله الى ان هذه المسالة لم تحض بالاهتمام الكافي في الدراسات والبحوث في العلاقات الجيوستراتيجية .وكانت نقطة انطلاقه الجملة التي أطلقها الصحافي في جريدة "نيويورك تايمز" والكاتب المعروف طوماس فريدمان والتي اشار فيها الى "انه من خلال تجربته الطويلة في ميدان العلاقات الدولية قد اكتشف ان العنصر الأكثر تهميشها في التحاليل هو الشعور بالمهانة والإذلال .ويؤكد الكاتب ان هذا الشعور نتيجة للتاريخ ولكنه في نفس الوقت محرك اساسي ولاعب مؤثر في التاريخ المعاصر .
وقد قدم الكاتب عديد الخصائص لهذا الشعور أولاها رفض الاعتراف من قبل المهمين بالضرر والاستياء الذي يتركه عند الاخر .كما اكد ان تجربة المهانة والإذلال تنطلق من المسار الذاتي لتتحول تدريجيا الى تجربة جمعية تعيشها المجتمعات بأكملها .
وتتولد عن هذه التجربة الذاتية والجماعية الكثير من الأحاسيس السلبية والمهينة .فهذا الشعور يقود عند الأفراد والجماعات إلى عذاب وألم ومعاناة نفسية مريرة .وتزيد التجربة الجمعية في هذا المجال من حدة الشعور بهذا الضيم والأذى .كما اكد الباحث على الشعور بالخزي والعار الذي صاحب هذه الأوضاع النفسية الفردية والجماعية .
هنا تكمن خطورة هذا الشعور في العلاقات الدولية عندما يستغله بعض السياسيين والقادة المغامرين والشعبويين لتعبئة الجماهير العريضة للاعتداء على الاخر والدخول في مواجهات وحروب عنيفة ومدمرة ضد البلدان الأخرى او الشعوب الأخرى .
ولعل الجانب الأهم في هذه الدراسة الهامة هو تقديم الكاتب للاشكال المختلفة التي يتجسد فيها الشعور بالإذلال والمهانة في العلاقات الدولية .ولم يكتف الكاتب بالتحديد النظري لهذه التعبيرات المتعددة لهذا الشعور الدفين بالمذلة بل جسدها في تجارب هامة ومفصلية من تاريخنا المعاصر .
وأول هذه التعبيرات هو الشعور بالمهانة الحقيقي او الوهمي والذي يقع توظيفه سياسيا وتكون نتيجته العنف والدمار.ويعطي الكاتب مثالا على هذه التعبيرة الحرب الروسية في أوكرانيا وهيمنة بوتين على السلطة والدولة وعود بداية هذا الاستياء والغبن الى التسعينات اثر سقوط الاتحاد السوفياتي وسياسة التشفي التي طبقها المنتشون بعد انتصارهم على معقل الشيوعية مع تدمير الإمبراطورية وتقسيمها وتهمشيها في العلاقات الدولية .
وقد خلقت هذه الهزيمة ونشوة الانتصار عند الغرب حالة من المذلة والمهانة عند الروس العاديين والكثير من الرافضين لهذا العالم الجديد الذي يدفعهم الى مزبلة التاريخ .وكان هذا الشعور الجمعي المهين وراء صعود الرئيس بوتين ووعده للروس بإعادة مجدهم السليب وسلطانهم المفقود في العلاقات الدولية .وهكذا يمكن ان يقود الشعور من اجل محاولة استعادة المجد الضائع كما هو الشأن في الحرب المدمرة لروسيا في أوكرانيا .
أما التعبيرة الثانية عن هذا الشعور بالإذلال والمهانة فهو الشعور الذي ينتج العنف والذي يقع التحكم فيه تدريجيا ليقع تجاوزه .ويعطي في هذا المجال تجربة العلاقة الصعبة والمدمرة في فترتي الحرب العالمية الأولى والثانية بين المانيا وفرنسا وقدرتهما على تجاوزها .فقد عرفت العلاقة بين هذين البلدين في قرنين من الزمن تاريخا من الحروب والهزائم وردود الفعل .فكانت مهانة هزيمة 1870 لفرنسا حيث تم إمضاء النص الذي أعلن عن الإمبراطورية الألمانية في قصر فارساي.وكانت ردة فعل فرنسا ان قررت إمضاء إعلان هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى في 28 جوان 1914 في نفس القاعة من قصر فرساي لتمريغ وجهها في التراب .
وشكل هذا الشعور بالمهانة والإذلال عاملا كبيرا في صعود هتلر والنازية للسلطة لمحاولة فسخها .الا ان البلدين قررا اثر الحرب العالمية الثانية الخروج من هذه الحلقة الجهنمية وبناء علاقات تعاون جعلت منهما الركيزة الأساسية للبناء الأوروبي .
- العرب والشعور بالإذلال
أما التعبيرة الثالثة عن هذا الشعور بالاهانة والإذلال فهي حسب الكاتب المهانة الداخلية والتي تنتج الإحباط والعجز.ويجسد العرب حسب الكاتب هذه التعبيرة للاستياء الجمعي .وتعود هذه الوضعية الى التجربة التاريخية المهينة والتناقض الصارخ والكبير بين ذكرى إمبراطورية قوية ومهيمنة على العالم لا فقط من الناحية العسكرية والاقتصادية بل كذلك من الناحية التقنية والعلمية والواقع الحالي حيث أصبحنا ضحايا للهيمنة والتوسع الامبريالي بمختلف أشكاله .
وقد بدا هذا الشعور بالاذلال مع بعثة نابليون الى مصر سنة 1798.فقد شكلت هذه الحملة صدمة لكل العرب نظرا للفارق الكبير بين الغرب الذي بدا مغامرة التحديث والتطور والعالم العربي الذي دخل مرحلة التهميش والتخلف والخرافة .
وقد ازدادت هذه المذلة مع كل المعارك التي خسرها العرب منذ حملة نابليون وأهمها نكبة 1948 وهزيمة 1967 ثم الحروب ضد العراق .وقد ساهمت كل هذه الهزائم في تفاقم هذا الشعور الجمعي بالمهانة والإذلال .واشار الكاتب ي إلى أن العرب ليم يستسلموا لهذا الشعور بل حاولوا في عديد المناسبات التاريخية إعادة بناء الذات ومحاولة استعادة مجدهم التليد.
ومن بين هذه المناسبات التاريخية يمكن أن نشير إلى النهضة العربية ومحاولات بناء الدولة الوطنية .
وقد جعل فشل هذه التجارب وعجزها عن تحقيق أهدافها في إعادة بناء تجربة ونهضة عربية جديدة هذا الشعور بالاهانة يتعمق ويتواصل ليصبح عامل تعبئة لبعض التجارب السياسية الاستبدادية والتسلطية .
يشكل هذا الكتاب محاولة مهمة للبحث في المسكوت عنه في العلاقات الدولية والذي ساهم في زرع الفتنة والعنف والصراعات بين الأمم .ويشكل الخوض في الشعور الدفين بالاذلال والمهانة فرصة لفتح نقاش جدي بين البلدان للخروج من حالة الاستياء وتفادي استعمال هذا الغبن الجماعي لإشعال نار الفتنة بين الامم وتغذية منسوب الحقد والكراهية والعنف .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115