بين خيبة الأمل و الحاح مسعى الانقاذ
رغم مضي سنة و نصف على تشكيل الرباعي الحاكم لم تتقدم تونس على طريق حل مشكلاتها المتراكمة بل يمكن القول أن مصاعبها تفاقمت وأزمتها تعمقت و على قدر الامال العريضة التي فتحت عليها انتفاضة شعبية اطاحت براس الاستبداد و الفساد كان حجم الخيبات من مسار انتقالي لئن حقق مجالا فسيحا من الحرية السياسية الا انه عرف مسلسلا من الصراعات حول السلطة و التموقع في أجهزة الدولة و مواطن القرار على حساب ما يصبو اليه المواطنون عامة و شباب تونس خاصة من مقومات الحياة الكريمة.
كان من المأمول ان يفتح عهد الحرية على اصلاحات جذرية تتجه الى مواطن الخلل في منوال التنمية و في منظومة التكوين و التشغيل و منظومة التربية و التعليم و تعالج العاهات التي اصابت الجسم المجتمعي و الكيان الاقتصادي والجهاز الاداري من رشوة ومحسوبية و اهدار للمال العام و تقاعس عن القيام بالواجب المهني. بيد أن الحسابات السياسوية الضيقة و التجاذبات الايديولوجية العقيمة و الاغراض الفئوية و الحزبية الانانية حالت دون معالجة اي من تلك المشكلات طوال السنوات الاربع الاولى التي عقبت الثورة، بل انضافت اليها مشكلات جديدة من ابرزها تراجع الحس المدني و احترام القانون ورفض الانضباط و تحدي السلطات جميعا مما كانت له اثار كارثية على انتاج الثروة و على الاستثمار و التشغيل ، كما وجدت هذه الفوضى ترجمتها في تفشي الجريمة والعنف وفي السلوك البيئي الذي اضحى بدوره متوحشا و منذرا بأسوأ العواقب، و شهدت البلاد ارتفاعا في الاسعار تجاوز حد الشطط و تسبب في خسارة كل ما ذهب الى ظن الشغيلة و النقابات المدافعة عنهم انهم ربحوه من قدرة شرائية.
و رغم التحفظات التي احاطت بسياق و مجريات انتخابات نهاية 2014 فقد تجدد امل الكثيرين في أن تكون مرحلة المؤسسات الدائمة أفضل من سابقاتها، بيد أنهم فوجئوا بدخول المنظومة السياسية الحاكمة في أزمة فور تشكلها ، ازمة اعادت انتاج عاهات الزبائنية و الفساد و خوصصة الدولة و ادارت الظهر لمتطلبات العدالة الانتقالية ومطالب ثورة الكرامة. لقد كان من ابرز نتائج هذه الازمة و انصراف الاحزاب الحاكمة الى نزاعاتها الداخلية و البينية أن تعطلت اليات اتخاذ القرار وتحكمت الترضيات و غلب التردد و تعذرت تعبئة الجهود و توحيدها لمعالجة أوضاع تسير من سيئ الى أسوأ. من جهة ثانية ساهم انشطار نداء تونس في مزيد اضعاف قدرته على قيادة الحكومة و ادارة البلاد و برزت مخاطر التحول من منطق التوافق على الصالح العام الى منطق الصفقات الحزبية.
هكذا دخلت تونس منذ 2015 مرحلة حرجة مع تدهور اغلب المؤشرات الاقتصادية من نسق نمو ومعدلات بطالة و ميزان تجاري و مدفوعات ومديونية وتضخم وهي ايضا مرحلة تنامت فيها حدة هجمات الارهاب و انكشف فيها مدى اتساع الجنوح اليه في الفئات والجهات التي تعاني من الهشاشة و التهميش.
ان نقطة الضعف الرئيسة اليوم في الكيان التونسي هي تفاقم العجز في مجال انشاء المشاريع الاستثمارية و المشغلة و تردي حالة البنى الاساسية و المرافق و الخدمات العامة و افلات جزء ضخم من الانشطة الاقتصادية من مراقبة الدولة و سلطة القانون سواء عن طريق التهريب و التجارة الموازية او عن طريق التهرب الجبائي. ان تونس اليوم في وضع يفترض تكاتف جهود كل ابنائها المخلصين من اجل وضع وتنفيذ برنامج اصلاحات عاجلة تتوافق و تسهر على تطبيقه اوسع القوى الوطنية من احزاب و منظمات وجمعيات وشخصيات ووسائل اعلام شريفة، برنامج نرى ضرورة اعتباره بدروس التجارب السابقة و قيامه على قراءة سليمة لمعطيات الوضع الراهن.
اولويات المرحلة و ارضية الاصلاح
من المهم البدء باعادة ترتيب الاولويات والتركيز على المشكل الاساسي المطروح حاليا و في راي الحزب الجمهوري فان القضية الرئيسية المطروحة اليوم و التي تشغل بال اوسع جماهير الشعب وتحرك شباب الاعماق و تمثل منطقة الوجع وتشكل معالجتها بوابة الامل هي الوضع الاقتصادي الاجتماعي بالغ الصعوبة و ان مجابهته بما يتطلب من اجراءات شجاعة و حازمة ستمكن من التقدم في تكريس ما نص عليه الدستور من مبادئ وقيم تقدمية و ديمقراطية، ومن ايجاد القاعدة المادية الضرورية لمكافحة الارهاب وتجفيف منابعه الرئيسية اي التهميش و الاقصاء، ومن دعم مقومات الاستقلال الوطني و الحد من اسباب التبعية.
ينطلق هذا التشخيص من قناعتنا بانتهاء المرحلة السياسية التي كانت فيها المسألة السياسية تحظى بالاولوية المطلقة و هو امر كان طبيعيا في لحظة الانتقال الديمقراطي و لم يعد كذلك بعد اقرار الدستور الجديد و تركيز اغلب المؤسسات الدائمة للدولة. وهذا لا يعني عدم وجود مشاكل عالقة مثل استكمال بناء المؤسسات و تجسيم العدالة الانتقالية الى جانب مسائل تمويل نشاط الاحزاب و العلاقة بين المال والسياسة و كذلك ملف اصلاح الامن و القضاء الخ... بيد ان هذه القضايا على اهميتها و ضرورة التقدم في معالجتها لا ينبغي ان تحجب الحقيقة الموضوعية لتحول عقدة الوضع التونسي و محور اهتمام الراي العام من قضايا السياسة و نزاعات الاطراف السياسية الى مجابهة النتائج غير المقصودة لذلك التركيز المفرط على صراعات الحكم و الهوية و ما إليها و عدم الاهتمام الكافي بالمجالات الاخرى و في صدارتها التنمية والتشغيل . وكنتيجة لهذا الوضع تصاعدت تعبيرات الغضب لدى فئات الشباب وفي الجهات المهمشة وتنامى الشعور بالاحباط وأصبح جزء متزايد من الراي العام ساخطا على الاحزاب و قياداتها ويعتبرها منشغلة عن معاناته بخدمة مصالحها. هذا هو الاحساس الذي يسود اليوم و سواء كان مبررا او مبالغا فيه فهو يهدد ان لم يجد من يأخذه بعين الاعتبار بالتحول الى لهيب يندلع في اي لحظة فما هو الموقف المطلوب في هذه الحالة؟
لقد تفاعلت المعارضات مع هذا المعطى بطرح مطلب الانقاذ او الخلاص الوطني. طرح ذلك الحزب الجمهوري منذ سنة 2015 و تلاه حزب المبادرة الدستورية ثم الجبهة الشعبية. و في هذه الاثناء جاءت مبادرة الرئيس الباجي قائد السبسي والتي تمت صياغة نسختها الاولى على عجل و كان من الواضح لدى المعارضة ان نص الحيثيات والنقاط البرامجية تشكو عديد النواقص كإغراق قضايا مفصلية مثل العدالة الجبائية و مكافحة المضاربة بقوت المواطنين في كم كبير من النقاط الجزئية او الدعوة الى التسريع بالمصادقة على مشروع قانون المصالحة الاقتصادية مع تجاهل العدالة الانتقالية. بيد ان الاراء تباينت بخصوص كيفية التعاطي مع المشروع : فقد رفضت الجبهة الشعبية الوثيقة المقدمة من طرف مصالح الرئاسة و انتهت برفض المبادرة الرئاسية جملة و تفصيلا في حين اعتبرت احزاب الجمهوري و المسار وحركة الشعب انه ينبغي العمل على تعديل النص حتى يتوافق مع رؤيتها للوضع العام و متطلبات اصلاحه و هو ما تم بالفعل. و رغم اتفاق الجميع على عقد لقاءات بين الخبراء لإعداد بديل المعارضة فان الجبهة تلكأت في ارسال ممثليها ثم انتقلت الى محاكمة المبادرة و مهاجمة الاحزاب و كذلك اتحاد الشغل التي قبلت بالانخراط فيها من حيث المبدأ مع العمل على تطويرها و ذلك من منطلق القناعة بضرورة تضافر جهود الجميع لإخراج البلاد من النفق و اعطاء الامل للتونسيين. و من موقع الحزب الجمهوري نضيف انه من اللامسؤولية الوقوف على الربوة بحجة ان المعارضة ليس من دورها ان تلعب دور رجال المطافئ، و ان المطلوب على العكس هو التهيؤ «للثورة القادمة» التي تتمناها وتؤكد على حتميتها اطراف من الجبهة الشعبية متوهمة انها ستحل مشاكل تونس و ستنقل شعبها الى وضع افضل. أما قناعتنا فهي ان الظروف التي تمت فيها الاطاحة بنظام بن علي قد كانت وراء الصعوبات الكبيرة التي نعيشها الان، ولن يؤدي اشتعال حريق الثورة مجددا الا الى الخراب فضلا على انه ليس بوسع احد التيقن من انه سيخرج رابحا في من السيناريو الكارثي.
انخراط متبصّر و مشروط
عندما ساند الحزب الجمهوري مبادرة الحكومة الوطنية فان ذلك لم يكن بغاية انقاذ حزب النداء كما اوحى بذلك الناطق الرسمي للجبهة الشعبية. ان التونسيين النزهاء لم ينسوا دور الحزب الجمهوري في الدفاع عن حق حزب النداء في النشاط في وجه الهجمات العنيفة التي تعرض لها و من جهته لم ينس الجمهوري ما تعرض له من اقصاء على يد التحالف الذي أقامه قائد السبسي و حمة الهمامي لإخراجه من جبهة الانقاذ عقابا على مواقفه المستقلة و الرافضة للنزعة الاستئصالية و لم ينس أيضا جهود قيادة النداء لتحجيم مكانته بكل الوسائل. بيد أن هذا كله لا يجعلنا نغلب الضغائن او ننتهز الفرصة لتصفية الحسابات فالأزمة ليست ازمة النداء وحده و لا ازمة منظومة الحكم الحالية وحدها : انها ازمة المجتمع والثقافة والاقتصاد والسياسة، ازمة شاملة وخانقة تتطلب تظافر جهود الجميع لإنقاذ البلاد من الحالة التي تردت فيها. هذا عن الادعاء الاول اما التعلل بكون اتفاق قرطاج ليس سوى شعارات فضفاضة او انه يكرس التوجهات الاجتماعية والاقتصادية التي رفضتها احزاب المعارضة، فيمكن الرد عليه في نقطتين:
الاولى هي أن الوثيقة النهائية غير الوثيقة الاولى و قد جاءت مستجيبة اجمالا للمطالب الاساسية للقوى التقدمية و هذا بفضل المواقف الصلبة لاتحاد الشغل و احزاب المعارضة المشاركة. و الثانية هي أن انخراط أحزاب المعارضة و كذلك اتحاد الشغل على ما نعتقد هو انخراط متبصر و مشروط. فالأمر لا يتعلق بإمضاء شيك على بياض او مجرد اعلان نوايا بل بالتزام مختلف الاطراف و كذلك التزام الحكومة القادمة بمواقف و سياسات عملية.
بالتأكيد لن يكون الامر سهلا و سيتطلب مفاوضات عسيرة و جهودا مضنية لدفع الاطراف ذات النوازع الليبيرالية الى تفعيل برنامج الانقاذ والقبول باجراءات جذرية و قوية و في هذا الاتجاه سيعمل الجمهوري من جهته على الدفاع عن وجهة نظر تجمع بين المبدئية والواقعية، هي وجهة نظر الخلاص الوطني كما يطرحه منذ مدة و قوامه المبادئ و السياسات التالية.
أولا: المبادئ
تأكيد الحق في العيش الكريم لكل التونسيين بما يعنيه ذلك من الحق في الحصول على موطن شغل يضمن الحاجيات الاساسية لكل مواطن و على المرافق و الخدمات الاساسية لجميع التونسيين في سائر الجهات، و بالتوازي مع ذلك اعادة الاعتبار لقيمة العمل و ثقافة الجهد والجودة و اخلاقية القيام بالواجب المهني على اكمل وجه.
• مراعاة التوازن والتكامل بين مبدإ النجاعة الاقتصادية و مبدإ العدالة الاجتماعية و بين دور السوق السوق و دور الدولة، و بين حقوق المبادرة الفردية الخاصة و حقوق المجموعة الوطنية مع العمل على النهوض بالاقتصاد الاجتماعي والتضامني.
في هذا الاطار العام و في ظل الظرفية التاريخية البالغة الصعوبة التي تجتازها البلاد، يجب أن تلعب الدولة دورا اساسيا من خلال مراقبة وتنظيم سوق منفلتة ومحكومة بمصالح المحتكرين والمضاربين والمهربين و شبكات التجارة الموازية، و بتولي دور القاطرة الدافعة-الجاذبة للنهوض الاقتصادي و المساهمة من خلال المشاريع الكبرى في انتاج الشغل و تطوير البنية الاساسية و كذلك بتصور و تفعيل منوال تنموي جديد من اركانه الأساسية تعصير المدرسة التونسية و الحد من الفوارق بين الجهات الداخلية و الساحلية.
ثانيا: السياسات و الاجراءات العاجلة
من أجل تمكين الدولة –المعاد لها الاعتبار - من توفير الموارد الضرورية للقيام بدورها في هذه المرحلة الجديدة فان المطلوب هو الاقدام على اصلاحات جذرية و عاجلة تأتي في مقدمتها:
• مكافحة التهرب الجبائي بوصفها شرطا لتحقيق العدالة الجبائية و المساواة في المواطنة، و لدعم موارد الدولة و مجهود الاستثمار و التنمية.
• مكافحة الفساد الذي اصبح سرطانا ينخر جسم الاقتصاد و الادارة و ينمي ظواهر الكسب اللا مشروع و استغلال النفوذ.
• مكافحة التهريب بالتركيز على مصادره والمتحكمين فيه و اصلاح مسالك التجارة للحد من سطوة الوسطاء و غلاء الاسعار،
• معالجة الاختلالات المتراكمة في توزيع الثروة بين المناطق و ذلك عبر سياسة التمييز الايجابي لفائدة الجهات و الاحياء المحرومة والمهمشة.
• الشروع في المراجعة الجذرية للعلاقة ما بين منظومتي التعليم و التكوين و ملاءمتهما مع متطلبات سوق الشغل
ان الاستجابة لهذه المتطلبات و تجسيدها في الواقع لن يكون بالامر السهل و قد يصطدم تطبيق ميثاق قرطاج بأنانيات كثيرة فئوية او حزبية وبنزعات سلطوية ربما تجعله حبرا على ورق وعندها ستكون الطامة الكبرى. و عليه فالأمر يتطلب تعاقدا اجتماعيا و سياسيا تشكل مبادرة حكومة الوحدة الوطنية لبنة مهمة في إرسائه كما يتطلب تكليف حكومة قوية ذات راس سياسي غير متحزب تتمتع بحرية الحركة و اتخاذ قرارات شجاعة و قوية، مستعدة للضرب على ايدي الفاسدين و المهربين و الحد من نشاط المضاربين بأقوات الناس و الزام المتهربين من الجباية بتحمل واجبهم ازاء الوطن الذي علمهم ويسر لهم سبل الارتقاء و الاثراء و الرفاه، وأخيرا حكومة تحرص على تنسيق المواقف و المبادرات مع المجلس النيابي و رئاسة الجمهورية من دون تدخل في صلاحياتها او محاولة لي ذراعها. هذا هو تقديرنا للوضع و لشروط اعطاء الامل في المستقبل و تفادي المخاطر المحدقة بالبلاد، و سنعمل على تقاسمه مع كل الاطراف التي تضع مصلحة الوطن فوق الاعتبارات الاخرى.
عبد اللطيف الهرماسي
(عضو المكتب التنفيذي للحزب الجمهوري)