وبأيديهم صكوك التوبة، كأنّ الله سبحانه وتعالى عيّنهم أولياء علينا وعلى مصيرنا.
تربّينا على السكوت إذا تكلّم أحدهم، وعلى الورع من فتح القرآن إلاّ بحضورهم، وتربّينا على اجتناب السؤال الذي يغضب هؤلاء الذين يتحرّكون في الأرض كالأنبياء. ارتبط مصير الأمّة عبر قرون بما تراه أبصارهم، وإن انبرى سائل أو مشكّك في أقوالهم رمي بحجارة من سجّيل وكفّر ولعن مثلما يلعن إبليس. والسبب بسيط لأنّه كافر بهم وبفهومهم.. والسبب بسيط أيضا لأنّهم يعتقدون اعتقادهم بوحدانية الله ونبوّة محمّد أنّ من ينكرهم فقد انكر الله.. وهكذا انتصب الإنسان / الربّ بيننا يأمر وينهى ويزكّي ويتوعّد..
واليوم تعيش الدول العربية لحظات تاريخية فارقة.. لحظات المواجهة بين ولاية الفقيه التي كبّلت الفكر العربي أجيالا وأجيالا وبين المستنيرين المثقفين الذين يؤمنون أنّ الثورات العربية لن تبلغ مقاصدها ما لم تقارب القرآن مقاربة حديثة.. وما لم تسلّط آليات الفكر المعاصر على تراث تراكم وحمل الشهادات على أنّه تراث إنساني بالأساس وليس له أيّة علاقة بالمقدّس. هي فئة من المستنيرين تدرك جيّدا أنّ مسافة كبيرة تفصل فهوم هؤلاء الذين نصّبوا أنفسهم أولياء علينا عن المعاني التي تضمّنها القرآن.. مثلما تدرك أنّ وضع المجتمعات العربية في انحدار مستمرّ، وأنّها خرجت عن ركب الحضارة بما يحقنونها به من مخدّرات من صنف أنّ أفضل العصور هي عصور الخلافة. وأنّ أبواب السماء قد أغلقت وعليهم الاحتماء بمنقذي هذه الأمّة من الضلال، عسى أن ترضى عنهم السماء فتنفتح من جديد.
وكم هي نشيطة وظيفة الفقهاء هذه الأيام؟ وكم كانت صورة مجتمعنا معبرة بما يبلغنا من مواقف تتعلّق بالمساواة في المواريث: هي مواقف تحكي في اختصار بليغ أنّنا أمّة تونسية حائرة وقلقة بدستورها من ناحية وبما تقتضيه روح التطوّر الحضاري من ناحية ثانية، بما تحمله مجلّة الأحوال الشخصية ، ونحن نحتفل بعيدها الستين، من بذور حرص الزعيم بورقيبة على حفظها بين بنودها عسى أن تستأنس بها الأجيال القادمة لتنميتها وإخراجها عن ولاية الفقيه، وبين عقلية مازالت تتلذذ بعبوديتها لمرجعية تقليدية أكل عليها الزمن ولم يشرب بعد. فتجربة التونسيين مع المساواة في المواريث هي غير تجربة المغاربة مع هذه القضية وإن كنّا نحمل نفس الهموم، فعلى الأقلّ نجد عندهم بين الحين والآخر من بدأ من فقهائهم يستفيق وينفض عنه غبار المرويات التي وأدت كلّ فكر حرّ.. ومصيبتنا في بلادنا أنّنا كلّما رمنا إثارة قضية تجديد الفكر الديني من منظور واقع المرأة ينتصب هؤلاء مولولين وصارخين ومحذّرين من مغبّة الخروج عن الدين فإذا بالناس في هلع وخوف ينزوون رافضين حتى الاستئناس بغيرهم من المجتمعات الإسلامية. بل يرفضون حتى الانصات إليك أو تنبيهك أنّ تركيا على سبيل المثال، والتي طالما تباهى رئيس النهضة بأنّها بلد متأثّر بأفكاره، والتي رغم تربّع الإخوان فيها للحكم فإنّ المرأة تساوي الرجل في المواريث.. ولم يقم أيّ تركيّ أو تركية لينبّه بأنّهم من أهل الزيغ..
قال السيد المفتي والأستاذ كلمة فصل في القضية، وأصدع بحكمه أمام وسائل الإعلام.. واعتبر أنّ فسحة الراحة في القضية قد انتهت.. وأفاد نواب المجلس ونائباته بالتعليل الفقهي الذي يقيهم مواجهة المجتمع المدني والمرأة على وجه الخصوص.. لكن لم يستحضر السيد الفقيه المفتي أنّ هذه القضية هي قضية المرأة التونسية منذ التسعينات، وأنّه ليس يسيرا عليها أن تطوي هذا الملفّ وتهدأ في سكون في بيتها، بما أنّ مفتي الأمّة قال بأنّ مساواة المرأة مع الرجل ضدّ القرآن وبصفة أدقّ مساواتها في المواريث.
حان وقت الجدّ يا سيدي، وآنت لحظة الحوار بيننا، ولا بأس فلتنس هذه المرّة أنّ التي تخاطبك هي المرأة « الناقصة» وأنّك الرجل « الكامل».. تعالى نتحاور بالقرآن ولا شيء غير القرآن، انزع عن فكرك سياط الفقهاء التي صنعوها وابتدعوها حتى يقصوا عنك كلمة الله. أزح تلك الحجب التي وأدت نظرك ودفنت معاني القرآن.. تعال نعط للقرآن مكانته الحقيقية.. وردّ الاعتبار لكلمة الله حتى وإن خالفتهم.. أنصف القرآن وعبّر بمقاربتك الجديدة لفهمه عن خشيتك من الله، فقد قال تعالى» إنّما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ» فاطر35/ 28.
إليك قراءتي لآيات المواريث وأنا أنتظر منك مقاربة لهذه الايات، ومرّة أخرى أنبّهك إلى وجوب قراءتها وقد تحرّر فكرك من سلطة قال فلان وأخبرنا فلان.. فأنت الأدرى بأنّ الله خالقي وخالقك وخالق الكلمة. وعليه فهو العالم بما يقول ويبلّغ وليس كلامه ناقصا حتى تحميه ولاية الفقيه:
• آيات المواريث ودلالاتها
تعدّدت أساليب البيان في المواريث وتنوّعت، فمنها ما نزل خبرا امتزج بالأمر في الآية « ولكلٍّ جعلنَا مَوَالِيَ ممَّا تَرَك الوَالِدَانِ والأَقْرَبُون والّذينَ عَقدَتْ أَيْمانُكُمْ فآتُوُهُم نَصيبَهُمْ إنّ الّلهَ كانَ عَلى كلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا» (النّساء4/33)، ومنها ما نزل أمرا صريحا وذلك في قوله «كتِب عليْكُم إذا حَضَر أحَدَكُم الموْتُ إنْ تَرَكَ خيْرًا الوصيَّةُ للوالِدَيْن والأقْرَبِينَ بالمَعْروفِ حقًّا علَى المُتَّقِين» ( البقرة2/180)، وقد ساير في بنائه الصيغة التي نزل فيها الأمر بالصّوم (البقرة2/183)، ونزل أيضا الأمر بالنفقة حولا على المعتدّة بوفاة « والّذينَ يُتَوَفَّوْن منكُم ويَذَرونَ أزْواجًا وصِيَّةً لأَزواجِهم متَاعًا إلى الحَوْلِ غيرَ إِخْراجٍ» (البقرة2/240) ، ونزل الميراث في صيغة جواب عن معضلتين أشكلتا على المؤمنين المعضلة ....