والثقافة كذلك للحديث عن بعض الوجوه التي ساهمت في إثراء وتنشيط الساحة الإبداعية في بلادنا منذ الاستقلال إلى اليوم .
وكان لنا في تقديم هذه الوجود الإبداعية خيط رابط وهو تاثير المشروع الإبداعي في التجربة السياسية وخصوصية المشروع السياسي في بلادنا والذي عرف اهتماما كبيرا خاصة بعد الثورة .وقد أشرنا خلال تقديم هذه الوجوه إلى تأثير إبداعاتها ومساهماتها في بعض التوجهات الكبرى للمشروع السياسي للدولة الوطنية والنخب التي تتالت في بلادنا منذ المنتصف الثاني للقرن التاسع عشر مرورا بالحركة الوطنية والدولة الوطنية والنخب التي أفرزتها الثورة باختلافاتها .
وأكدت هذه التجارب باختلافاتها وتنوعاتها على خصوصية تجربتنا التاريخية من حيث تأكيدها على مدنية الدولة ومبادئ المساواة والعدالة الاجتماعية .
وسنلتقي في هذه المساحة مع مناضل سياسي عرف المنافي والسجون وهو فتحي بلحاج يحيى .وقد عرفناه إلى جانب نضاله السياسي اليوم خاصة في المجتمع المدني عن طريق كتاباته الساخرة حول الوضع التي عاشته بلادنا في السنوات الأخيرة .
وقد عرفت روايته الأهم» الحبس كذاب ...والحي يروح» نجاحا كبيرا وشكلت قطيعة معرفية وسردية كبيرة في مجال الأدب السجني حيث انتقلت من سردية التعذيب والآلام التي يعيشها السجين في هذه التجربة القاسية والمريرة الى كتابة جديدة تمتزج فيها روح السخرية والتمرد على السجان .ثم جاءت رواية»كيبروكو» والتي عرفت كذلك نجاحا مهما وقد واصلت في منهج السخرية السوداء والممتعة في نفس الوقت في لنقد تجربة التوافق التي عرفتها بلادنا اثر انتخابات 2014.
ولا تقف أهمية فتحي بلحاج يحيى على تجربته السياسية أو كتاباته بل تهم كذلك لثورته ورفضه للمبدإ السائد والذي جعل من السياسة والدولة والحزب أساس التغيير الاجتماعي ليحتمي بإنكار الكثير من المنظرين والمفكرين مثل غرامشي ولوكاش والين جعلوا من الفعل الثقافي والتغيير العميق للذهنيات كنه التحولات الاجتماعية .وفي هذا الإطار فإن مسار فتحي بلحاج يحيى مسار جيل كامل من أبناء الدولة الوطنية الذين انخرطوا في النضال السياسي للوقوف ضد مشروع الاستبداد الناشئ.إلا انهم عادوا من هذه القناعة لجعل من الثقافة والهيمنة الثقافية قارب المرور إلى المجتمع الآخر .ومن ضمن هذا الجيل نجد المرحوم نورالدين بن خذر احد قادة حركة «برسبكتيف» اليسارية والذي دخل إلى ميدان النشر اثر خروجه من السجن وكذلك الناشر الأستاذ النوري عبيد صاحب دار نشر «محمد علي» والأستاذ منصف الشابي صاحب دار النشر «آفاق عربية» والأستاذ التيجاني زايد صاحب دار نشر «مسكلياني» وغيرهم كثيرون في كل مجالات الإبداع مثل المخرج النوري بوزيد والمسرحيين الفاضل الجعايبي وجليلة بكار والمخرجة سلمى بكار .
والسؤال الذي يطرح نفسه حول هذه المسارات هو معرفة أسباب التخلص من هيمنة السياسي للدخول متاهات الإنتاج والإبداع الثقافي .وسنحاول من خلال الوقوف على مسيرة فتحي بلحاج يحيىى إيجاد بعض الإجابات عن هذا التساؤل .
• في البدء كانت الكلمة
كان للمحيط العائلي تأثير كبير على مسيرة فتحي بلحاج يحيىى حيث أقحمه والده عم الجيلاني المفكر والناشط الثقافي رغما عنه ومنذ صغر سنه في عالمه الثقافي.فكان يأخذه صباح كل احد إلى النادي الثقافي والأدبي الذي كان ينشطه في مكتبة عبد القادر الطرابلسي في الأسواق في المدينة العتيقة . كان يؤم هذا النادي أهم مثقفي بلادنا مثل حسن حسني عبد الوهاب وعثمان الكعاك.وقد نشط عم الجيلاني في هذا النادي مع جيل جديد من الشباب .من ضمنهم محمد العروسي المطوي ومحمد المرزوقي والطاهر قيقة وحمادي الساحلي.ثم انطلق الجيلاني بلحاج يحيىى في مغامرة نشر جريدة» من وحي الشباب» والتي صدرت منها ثلاثة أعداد وكان من ابرز كتاب هذه الأعداد محمود المسعدي والشاذلي القليبي ومحمد مزالي .
وكان عم الجيلاني يفرض على ابنه مصاحبته كل يوم أحد لهذا النادي الأدبي.وكان يقضي اغلب الوقت في مخزن الكتب قبالة المكتبة حيث تمكن من قراءة كلاسيكيات الأدب العربي والعالمي إلا أن العلاقة الوثيقة مع الكلمة وعشقها بدأت عندما طلب منه عم الجيلاني مساعدته في إصلاح نسخ «القاموس المدرسي'» الذي أصدره لتلاميذ المعاهد الثانوية.وكان لهذا العمل المضني ليافع في عمر 14 سنة تاثير كبير على علاقة باللغة العربية وعلى مسك سحرها وخاصة عالم الاشتقاق الذي تتميز به لتفسح له مجالا كبيرا للتلاعب بالألفاظ.
وقد مكنه هذا العمل منذ الصغر من الانتهاء الى دقة اللغة العربية وبناء منهجيته في الكتابة والمنوال الساخر الذي يميزها .
ولن تقتصر الثقافة في صبا فتحي بلحاج يحيىى على منبعها العربي والكلاسيكي بل سيتمكن من إثرائها بالانفتاح على الثقبافة الفرنسية .
وسيأتي هذا الانفتاح من الحي الذي يسكنه في مونفلوري والذي شكل نقطة التقاء بين الأحياء الشعبية مثل حي هلال وأحياء أخرى راقية .
وقد مكنته هذه العلاقات الاجتماعية المتعددة لا فقط من زيارة كل أحياء تونس للعب مباريات كرة قدم الحامية الوطيس بل مكنته كذلك من الاطلاع على الثقافة العالمية وخاصة تمرد الشباب في العالم وعلاقة الفن بالسياسة من خلال المجلات العالمية التي كان يطالعها مع أصدقائه .
كان كل شيء يهيئ فتحي بلحاج يحيىى منذ الصبا لكي يكون فاعلا ثقافيا من طراز عال إلا أن السياسة ستدخل على الخط» لتغير هذا المسار وتجعل من التمرد والثورة هاجسه الأساسي .
• هيمنة السياسة وانحسار الثقافة
بدأ انخراط فتحي بلحاج يحيى في العمل السياسي منذ سنوات الدراسة في المعهد الثانوي في العلوية حيث ساهم في المظاهرات والتحركات التلمذية في علاقة بثورة الشباب في العالم التي انطلقت في بلادنا منذ مارس 1968.
وقد عرف أول طرد له بأربعة أيام اثر مشاركته في المظاهرات ضد إيقاف احمد بن عثمان ومحاكمته .وتواصلت تحركاته السياسية في معهد باردو ثم في الحركة الطلابية مع حركة فيفري 1972.
كما ستعرف على قادة اليسار الجديد وانخرط في حركة «برسبكتيف» مع الجيل الجديد مثل حمة الهمامي وعبد الرؤوف العيادي .
وستبدأ حملة كبيرة من الاعتقالات في تلك الأيام في صفوف أقصى اليسار.ولئن لم يتم إيقافه الا انه علم من احد أبناء حيه الذي كان يشتغل في مصالح الامن انه تم ذكر اسمه في التحقيق مع الموقوفين ليقع الحكم عليه غيابيا بسنتين سجنا.ليقرر اثر ذلك الهروب إلى فرنسا ليواصل تعلميه هناك والإفلات من السجن بدعم من نفس الصديق .وعند وصلوه إلى باريس تعرف على قادة اليسر مل نجيب الشابي وعزيز كريشان ليصبح مناضلا في حركتي «برسبكتيف» و»العامل التونسي» .
وسيأخذ هذا الانتماء منحى راديكاليا حيث التقي بالثورة الفلسطينية وتحول إلى مخيمات الجبهة الشعبية في البقاع في لبنان للتمرن على الكفاح المسلح .
واثر مراجعات في حركة العامل التونسي قرر العودة إلى تونس عبر الحدود الجزائرية مع رفيقه الشريف الفرجاني للمساهمة في دفع العمل السري .
إلا انه وقع إيقافه يوم 20 مارس 1975 في مدينة القيروان لتقع محاكمة بتسع سنوات ونصف من السجن .
ورغم مرارة وقساوة التجربة السجينة الا انها كانت نقطة النهاية للرومانسية الثورية التي ميزت هذه السنة وبداية مراجعات ستفتحه من جديد عل عالم الثقافة والإبداع .
• المراجعات وعودة الثقافة
بدأت المراجعات في سجن برج الرومي لتكون نقطة الانطلاق للخروج من التقوقع الإيديولوجي والابتعاد عن السياسة بمعناها المباشر اي التنافس على السلطة.
وساهمت ثلاثة عوامل أساسية في هذه المراجعات أولها الجانب الذاتي والصادم والسور الصامت بيت المناضلين في السجن.فقد اكتشف فتحي بلحاج يحيى أن الايدولوجيا كانت غطاء يخفي اختلافات عميقة في الذهنيات وانقسامات وشروخ على أسس سوسيولوجية وفكرية بين الريف والمدينة واللغة.وقد نتجت عن هذه التباينات اختلافات كبيرة بين مجموعات انغمست في الايدولوجيا والدغمائية إلى حد النخاع ومجموعات أخرى وكانت أكثر انفتاحا ولذلك ابتعدت تدريجيا عن التنظيم.
أما العامل الثاني والذي ساهم في هذه المراجعات فهو اللقاء في السجن بالقادة التاريخيين «برسبكتيف» ومنهم نورالدين بن خذر وجلبار النقاش ورشيد بللونة والذين تمت شيطنتهم من قبل القيادة الجديدة للعامل التونسي.وقد اكتشف فتحي بلحاج يحيىى على خلاف ما كان يشاع في هذه الشخصيات الكثير من الذكاء والثقافة والانفتاح ليعيش تقاربا كبيرا مع هذه المجموعة.
وقد عادت به هذه العلاقة إلى أجواء الفكر والثقافة حيث وجد عندهم ذخيرة من الكتب فيها الكتب الفكرية والرواية والدراسات التي كانت تأتي كهبة من كبرى دور النشر الفرنسية والتي اعادت اليه الشغف بالثقافة والفكر.
أما العامل الثالث فيعود لاكتشاف غرامشي حول الهيمنة الثقافية ودروها في التغيير الاجتماعي وستكون هذه العوامل وراء ثورة فكرية وثقافية كبرى في السجن والتي ستدفع بعض المجموعات إلى الانخراط في منظومة فكرية جديدة اكدت ان المحدد في عملية التغيير ليست السياسة بل الفكر والذهن .وتؤكد هذه المنظومة الفكرية إن الأولوية هي معركة الذهنيات ولا معركة السلطة وأن عملية التغيير لا تأتي من فوق بفعل الدولة كما كانت القناعة عند قادة الدولة الوطنية بل من تحت في المعركة اليومية ضد الفكر المحافظ والرجعي والأنماط الاجتماعية التقليدية .
وكانت لهذه الثورة انعكاسات سياسية كبيرة حيث أدت إلى انقسام المساجين إلى مجموعات قطعت مع التنظيم مما كان وراء تمزق ذهني وشخصي ومجموعات أخرى تقوقعت في الجمود العقائدي والراحة الفكرية التي يوفرها لها التنظيم .
لئن ظلت هذه القطيعة وهذا الفرز صامتين طيلة سنوات السجن للحفاظ على وحدة السجناء الا انها اصبحت علنية اثر الخروج من السجن .
• الحرية والانخراط في الحريات والثقافة
سيكون الخروج من السجن وراء ظهور هذا الانقسام والانشطار بطريقة واضحة .ولئن انخرطت مجموعة كبيرة حول حمة الهمامي والكيلاني في بناء حزب سياسي يساري راديكالي وهو حزب العمال فان المجموعة الأخرى انخرطت في النضال العام من اجل الحريات من خلالا بعث فرع منظممة العفو الدولية وخاصة في المجال الثقافي من نشر وسينما ومسرح .
وسيعود فتحي بلحاج يحيىى إلى مجال الدراسة في مجال التاريخ والعلوم السياسية كما سيتلقى تكوينا في مجال المسرح في باريس.كما سيتقلب عند عودته إلى تونس في عديد المهن ومنها بيع الكسروت واللبلابي قبل أن يدخل إلى مجال التعليم .
وسيدخل في هذه الظروف مجال الكتابة التي سيبدأها في جريدة «المغرب» بنص ساخر لدعم رفيقه السابق عزالدين الحزقي عندما أعلن ترشحه للرئاسة وكان كتاب «الحبس كذاب» أول كتاب لفتحي بلحاج يحيىى والذي سينطلق فيه اثر هدم سجن 9 افريل والذي اعتبره الكثيرون هدما للذاكرة الجماعية .ثم جاء موت نورالدين بن خذر واحمد بن عثمان تخلق خوفا من تلف الذاكرة وان تصبح مسيرة أقصى اليسار قبورا لا شواهد عليها .
فجاء هذا الكتاب لمحاولة حفظ هذه الذاكرة .
ثم ستتوالى الكتب ومنها «قبلو لا بارك الله فيكم « لفهم ظاهرة قبول الاستبداد واستبطانه ثم كتاب «في البال أغنية «وهو عبارة عن تأملات في الثورة ومآلاتها .
وسيأتي كتاب» كيبروكو» سنة 2014 والذي سيلقي اهتماما كبيرا لاختياره منهج النقد الساخر في التعاطي مع تجربة التوافق .وقد اكد هذا الكتاب على منهج فتحي بلحاج يحيى الساخر والذي يؤكد أن الهزل والسخرية هما الإحباط في ثوب الأناقة .
إن تجربة فتحي بلحاج يحيى على تجربة مهمة باعتبارها تعبر على خيار جيل كامل في المراهنة العمل الثقافي والهيمنة الثقافية من اجل التغيير الاجتماعي .ولعل السؤال الذي يطرح نفسه يهم إمكانية نجاح هذا المشروع وقدرته على الصمود أمام العواصف .وهنا يشير فتحي بلحاج يحيىى إلى أن الثورة الثقافية التي تعيشها بلادنا في كل مجالات الإبداع دليل على نجاح هذا الرهان وعلى قدرته على الصمود أمام كل انحرافات السياسي .
لننتظر ونرى أو wait and see كما يقول المثال الانقليزي .