الاقتصاد: الآن، الآن وليس غدا !

أعشق فيروز والرحابنة منذ سنوات طفولتي الأولى.على انغامها واغانيها التي كانت تذيعها الاذاعة الوطنية في ساعات الصباح الأولى اثر تراتيل

من القرآن الكريم ثم بعض الاناشيد الدينية.كنت اسمعها مع قهوة الصباح التي كانت تعدها لي جدتي مع بعض الحلويات قبل أن أغادر المنزل في اتجاه المدرسة.وكانت الاغاني الصباحية للسيدة فيروز تعطي لصباحاتي الكثير من الاشراق والامل وتدفعني إلى الإنطلاق للمدرسة وطلب المعرفة بكثير من الثقة وابتسامة عريضة.احببت كل اغاني السيدة فيروز الوطنية منها والرومانسية والطربية.
كما احببت وعشقت كل المراحل الفنية التي عرفتها السيدة فيروز مع الرحابنة أولا عاصي الزوج والحبيب ومنصور ثم الطفل المدلل والجنوني الذي اصبح أحد أهم الملحنين في الساحة العربية ابنها زياد.ولئن كنت لم استسغ العمل الأخير مع ابنتها ريما إلا أن فيروز بقيت عندي المثال للفن الراقي والمتميز.
لم تنقطع علاقة العشق والوله بيني وبين فيروز مع السنوات.فالى الآن واينما اصبحت يبدا يومي بسماع صباحيات فيروز لتصبح هذه العادة محل تندر من عائلتي أو زملائي في الشغل من المنظمات الدولية حتى الى مكتبي في الوزارة عندما افرض عليهم كل صباح هذا الاختيار الموسيقي.فينطلق يومي كل صباح مع أنفاس السيدة فيروز منذ الطفولة الى يوم الناس هذا.
ومن الاف الاغاني التي قدمتها لجمهورها ستبقى العديد راسخة في الذاكرة الجمعية العربية وحتى العالمية.
جالت بخاطري هذه الأفكار وأنا اناقش الوضع الاقتصادي في بلادنا مع احد الأصدقاء ورجعت بي الذاكرة الى مقطع من إحدى اغاني فيروز الخالدة «الآن ،الان وليس غدا» كشعار لاولويات بلادنا في الظروف الحالية.ولئن عرفت هذه الأغنية بهذا المقطع الشهير والذي أصبح شعار تلتجئ اليه القوى السياسية في تظاهراتها للتأكيد على اهمية التغيير الاني والفعل عوض الانتظار.وعنوان هذه الأغنية هو «سيف فليشهر» كتب كلماتها الشاعر اللبناني الكبير سعيد عقل وقام بتلحينها الاخوان رحباني وغنتها فيروز لاول مرة في معرض دمشق الدولي سنة 1966 ثم ضمنتها في اهم البوم سياسي والذي صدر سنة 1967 تحت عنوانها «القدس في البال» وستصبح هذه الاغنية شعار المناضلين والقوى السياسية التي تنادي بتحرير فلطسين وضرورة عودة اللاجئين الى اراضيهم.وتبقى كلمات هذه الأغنية في ذاكرتنا طالما لم يحقق الشعب الفلسطيني حقوقه.
«سيف فيلشهر في الدنيا ولتصدع أبواب تصدع الآن الآن وليس غدا أجراس العودة فلتقرغ
أنا لا انساك فلسطين ويشد بي البعد
أنا في افيائك نسرين انا زهر الشوك
أنا الورد...»
جالت بخاطري السيدة فيروز وهذه الأغنية الشهيرة وأنا اناقش الوضع الاقتصادي في بلادنا والمخاطر الكبرى التي يحملها في احشائه على الاستقرار المالي والسياسي لبلادنا.وكمال قال سعيد عقل وغنت فيروز فان الوضع الاقتصادي يتطلب أهتماما آنيا ولا يحتمل التاخير أمام حجم التحديات التي تواجهها بلادنا.
• في المخاطر والتحديات الاقتصادية الكبرى
تعيش بلادنا عديد التحديات والصعوبات الاقتصادية.لمواجهتها لابد من ضبط اهمها من حيث انعكاساتها والمخاطر التي تمثلها على الاقتصاد من جهة وتحديد اولويات السياسات العمومية لمواجهتها.وفي هذا الإطار يمكن لنا تحديد اربع تحديات يجب علينا مواجهتها بطريقة انية ومستعجلة.
يهم التحدي الاول التوازانات المالية الكبرى الداخلية والخارجية.وقد عرفت هذه التوازانات انخراما كبيرا لتصاعد العجز الداخلي بين مواردنا الذاتية ومستوى مصاريفنا واستهلاكنا.كما لعبت العوامل الخارجية دورا مهما في تاجيج هذا الانخرام بصفة خاصة انعكاسات جائحة الكوفيد من جهة وانعكاسات الحرب في اوكرانيا من جهة ثانية .
ونتج عن هذا الوضع تنامي كبير في عجز ميزانية الدولة وعجز ميزان الدفوعات ويهدد هذا العجز الاستقرار المالي للدولة وقدرتها على الإيفاء بالتزاماتها.
ويجب ان يشكل هذا التحدي هاجسا اساسيا واولوية كبرى للحكومة في الاسابيع والاشهر القادمة.
يخص التحدي الثاني الاضطرابات الكبيرة التي شهدتها السوق الداخلية منذ أشهر ونتجت عن ذلك الكثير من الندرة ونقص كبير شمل الكثير من المواد الصناعية والاساسية للتغذية مما خلق الكثير من التململ والتخوف وادى إلى ظهور تصرفات زادت من اضطراب الأسواق.وهذا الاضطراب ناتج عن سببين هامين.الاول هو الازمة المالية التي تعيشها الدولة والدواوين العمومية مما ساهم في الصعوبات التي نمر بها مع المزودين.الثاني هو الاضطرابات التي تشهدها السوق العالمية والتي أثرت على تزويد سوقنا الداخلية.
وإزاء هذه المسألة لابد للسلط العمومية أن تواجهها بطريقة شاملة وتبتعد عن التمشي القطاعي الذي ساد هذا التعامل.
يهم التحدي الثالث ضعف النمو الذي تعرفه بلادنا مما لعب دورا كبيرا في هشاشة التوازانات المالية للدولة. وأصبح ضعف النمو حاجزا هيكليا يزن بكل ثقله على الوضع المالي للدولة والوضع الاجتماعي مع تصاعد البطالة والتهميش الاجتماعي.وتبدو الدولة عاجزة عن دفع النمو وتنشيط الاقتصاد نظرا لضعف امكانات الاستثمار العمومي وللطابع البيروقراطي الذي لا يسمح بالتسريع في الاستثمار.
ويخص التحدي الرابع مسالة التحول الاقتصادي وضرورة المرور الى نمط تنمية جديد يرتكز على الرقمنة والقطاعات الجديدة.ولئن كانت التحديات الثلاث الاولى ذات طابع آني وقريب فان التحدي الأخير هو طويل المدى لكنه يتطلب قرارات واختيارات عاجلة نظرا للتأخير الكبير الذي عرفناه في هذا المجال.
ان هذه التحديات الكبرى تتطلب حلولا سريعة وقدرة على صياغة سياسات عمومية من اجل تجاوز هذه الازمة الاخطر في تاريخنا الحديث باخف الأضرار.
• أولوليات المرحلة وعودة الأمل في الإنقاذ
ان صياغة برنامج واضح المعالم للخروج من هذه المخاطر الكبرى يتجاوز اطارها هذا المقال.
كما ان صياغة هذه الاولويات لا يمكن ان تقتصر على نقاشات بين الادارة وبعض المؤسسات الدولية على اهميتها.فاعداد البرامج الاقتصادية وخاصة في فترات الازمات يتطلب انفتاحا ومشاركة واسعة من قبل الخبراء والفاعليين السياسين والاقتصاديين من منظمات اجتماعية واحزاب سياسية ومنظمات المجتمع المدني .
وفي هذا البحث عن الحلول ساشير الى بعض اولويات البرنامج الاني للانقاذ الاقتصادي.
تهم الاولوية الأولى ضرورة ضبط برنامج استقرار اقتصادي متوسط المدى لايقاف نزيف التوازانات المالية الكبرى.ولابد لهذا البرنامج الذي يجب ضبطه على مدى سنتين بتنسيق بين الحكومة والبنك المركزي أن ياخذ بعين الاعتبار جميع السيناريوهات ومن ضمنها الوصول الى اتفاق مع صندوق النقد الدولي كي لا تبقى بلادنا حبيسة سيناريو وحيد.
أما الاولوية الثانية فتهم عودة الاستقرار للسوق الداخلية وهذه المهمة تتطلب برنامجا حكوميا شاملا على مدى سنتين لا يتوقف على مواد دون أخرى يكون هدفه الأساسي تزويد السوق بطريقة متواصلة ومنتظمة.وهذا يتطلب توفير التمويل واعادة ربط علاقة الثقة مع المزودين.
تخص الاولوية الثالثة مسالة التنشيط الاقتصادي وعودة النمو.وتبقى هذه المسالة أساسية وتتطلب في رايي امام ضعف امكانيات الاستثمار العمومي وتعقيدات الاليات العمومية العمل مع القطاع الخاص من اجل هبة استثمارية (choc d'invistissement) في اقرب وقت ممكن.ويمكن لهذه الهبة ان تدفع النمو لكنها تتطلب عقدا مؤسساتيا واضح المعالم من شانه ان يؤسس لعلاقة ثقة بين الدولة والقطاع الخاص.
وتخص الأولوية الرابعة مسالة التحول الاقتصادي وضرورة بناء نمط تنمية جديد.وهذا يمر عبر ضبط رؤيا تنموية طويلة المدى تكون نتيجة لمسار مجتمعي مفتوح وواسع بين كل الأطراف.
تعيش بلادنا ازمة اقتصادية خانقة تتطلب اعطاء الاقتصاد الاولوية التي يستحقها.
وعلى راي الشاعر سعيد عقل وكما غنت فيروز فان الاهتمام بالاقتصاد يجب ان يكون الآن الآن وليس غدا.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115