باتت تذكر بعد 25 جويلية كمثال للفشل والفساد الذي ساد البلاد طيلة العشرية الفائتة، فكيف انقلب مزاج الشعب ضد تلك الانتخابات ووضع كلّ مقاليد السلطة بيد رئيس الجمهورية بعد أن ذهب الاعتقاد أنّ الاحتكام لصناديق الاقتراع بات أمرا واقعا لا رجعة
وبعد مرور أكثر من ستين عاما على استقلال البلاد خضعت خلال الجزء الأكبر منها لحكم فردي مطلق سواء على يد الزعيم «الحبيب بورقيبة» أوعلى يد الرئيس «زين العابدين بن على، تقف اليوم من جديد أمام شبح عودة الحكم الفردي المطلق، لكن هذه المرّة بمقبوليّة شعبيّة وتواطئ جزء من النخب التي توافق على فسخ نتائج الانتخابات والتفويض للرئيس لإعادة البناء من خارج الدستور والمؤسسات؟ هذا الانقلاب «»الدراماتيكي» في الموقف يثير أكثر من سؤال، هل حصل في تونس تغيير فعلي بعد 2011 أم أنّه حادث عرضي في التاريخ accident de l’histoireأو أنّ تونس كباقي بلدان المنطقة غير مهيّأة لاحتضان أي تغيير؟ أم هو فشل تلك الأحزاب والقوى التي جعلت من الديمقراطية حصان طروادة الذي دخلت به الساحة عام 2011 ؟ أم أنّ المسألة أعمق وتعود إلى عوائق ثقافية وبنيوية تجعل المجتمع عاجزا على التحوّل من نظام مركزي وسلطة فردية إلى نظام تعدّدي وحكم مؤسسات يقوم على الانتخابات والتداول السلمي على السلطة ؟
كثيرا ما يعتمد الموروث الثقافي والديني كحجّة لتفسير عجز مجتمعاتنا عن اللحاق بركب الديموقراطية، وقد كانت تونس دائما تستثنى من قبل الملاحظين الغربيين من ذلك الحكم، لانّهم يعتبرونها استفادت من جرعة الحداثة والعقلانية البورقيبية وأنّها نجحت بعد الاستقلال في تفكيك البنى الاجتماعية القديمة، و السياسة التعليمية أعطت ثمارها بانبعاث طبقة وسطى متعلّمة ونخب نيرة ومنفتحة، لذلك يرونها مهيّأة اكثر من باقي الدول العربية لاحتضان أوّل ديموقراطية في المنطقة
يقول روسو «رصيد الديموقراطية الحقيقي ليس في صناديق الانتخابات، فحسب، بل في وعي الناس» إذن هل أنهّ بعد كل ذلك التطوّر الاجتماعي والسياسي الذي وقع الحديث عنه بإطناب «كمعجزة» تونسية مازال المجتمع التونس يفتقد إلى الرصيد الضروري لبناء الديمقراطية، الجواب يمكن البحث عنه في ظروف نشأة القوى والأحزاب السياسية بالبلاد وعلاقتها بالسلطة.
فأهم فصائل المعارضة السياسية للنظام بدأت في الظهور منذ أواسط الستينات بعد أن حسم الصراع اليوسفي البورقيبي وتمّ إجهاض محاولة الانقلاب العسكري الذي كان يهدف للإطاحة بحكم الزعيم الحبيب بورقيبة،
تلك العوامل دفعت النّظام إلى مزيد التشدّد بإلغاء أي هامش للاختلاف معه، تم إيقاف «منبر التقدم « للمناضل الدستوري المستقل سليمان بن سليمان وتمّ حظر نشاط الحزب الشيوعي التونسي.
في تلك الظروف انبعثت «منظمة آفاق «بالجامعة التونسية ، تلك المنظمة التي تفرّعت عنها أغلب التّيارات اليسارية ، وتلك التيارات التي تفرّقت إلى عدة تنظيمات تشترك في معظمها في نفس المرجعيات «الماركسية «اللّنينية أو الماوية أو «التروتسكية» وترفع نفس الشعارات تقريبا ن الثورة الاشتراكية ودكتاتورية البرولتاريا، ورغم أنّها لم تعد تعتمد هذا الخطاب إثر التقلبات الكبرى التي حصلت في العالم واعتماد كلّ أطيافها خطاب براغماتي كلّ حسب توجّهها، لكن العائق الأكبر لتلك التيارات هي صراعها في ما بينها حول السيطرة على الحركة الطلابية وعلى النقابات والجمعيات التي تواجدت فيها أكثر من صراعها مع خصومها».
وكذلك التيارات القومية والبعثية التي كانت مرجعياتها السياسية الأنظمة القومية العربية وأولية مشروعها هو الوحدة العربية لم تكن تختلف كثيرا في موقفها مع اليسار من الديموقراطية باعتبارها أداة في يد الغرب لاختراق الشعوب والهيمنة على ثرواتها من النّظام كعميل للغرب.
ومسار التيار الإسلامي يختلف عن مسار باقي التيارات، فقد قوبل انبعاثه على الساحة بشيء من التسامح و التشجيع غير المباشر من قبل الحزب الحاكم لمحاصرة المد اليساري بالجامعة بالرغم من أنّه لم يكن يخفي العناوين الكبرى لمشروعه في إقامة دولة إسلامية وتطبيق الشريعة ومرجعيّته الإخوانية بمصر وبفكر السيد قطب وأبو العلى المودودي ، لكن المحنة التي لحقت بذلك التيار بسبب دخوله أكثر من مرة في مواجهات عنيفة مع النظام أجبرته على تعديل خطابه وإدخال بعض المصطلحات من خارج القاموس الديني وحتى عقد تحالف مع قوى ليبرالية ويسارية والالتقاء معها حول أهداف مرحلية مشتركة .
نسبيا ذلك ما أعاق تلك القوى عن النجاح في بناء الديمقراطية ، فتلك القوى وضعت قدمها في تلك التجربة وهي لا تفكّر إلاّ في حصد أكثر ما يمكن لها من مواقع في الحكم دون أن تفكّر في التّخلّص في العوائق المكبّلة لها، و لم تفكّر في ضرورة مراجعة خطابها بالخروج نهائيا من الأسر الإيديولوجي الذي لم
تتخلّص منه، ولم تتجاوز أشكالها التنظيميّة القديمة القائمة على وحدانية « الزعيم» واصطفاء حزامه من أكثر الموالين له ولنهجه واختزال دور القواعد في تأثيث اجتماعات الحزب والتصويت له، هذا على مستوى العوائق الداخلية لتلك القوى والأحزاب ، لكن في مستوى علاقاتها بمحيطها السياسي والاجتماعي وذلك هو المحدّد في رفع رصيد وعيها، فمن خلال أدبيات تلك الأحزاب قلّ وندر أن تجد فيها أثرا لمراجعاتها بعلاقاتها بالدولة أو بتاريخ نشأتها الدولة أو بدورها في تطوير المجتمع التونسي وذلك ما عطّل مصالحتها مع المجتمع أو ما تسمّيه بالدولة العميقة، واقتصار فهمها للديمقراطية على أنّها تغيير في الأشكال ووضع نصوص وبعث مؤسسات جديدة وغاب عنها أنّ إعادة توزيع الثروة قبل توزيع السلطة هي أولوية مطلقة لدي غالبية الشعب ...وأي ديموقراطية يغيب عنها هذا الأمر فهي في حكم المعدومة