منذ خطاب الحبيب بورقيبة في المدرسة الصادقية يوم 25 جوان 1958، وهو خطاب يمثّل الإعلان المباشر عن الإصلاح التربوي الأوّل المقترن باسم محمود المسعدي، مرورا بجملة الإصلاحات المتعاقبة وأساسا قضيّة التعريب مع محمّد مزالي وإصلاحات 1991 مع محمّد الشرفي والقانون التوجيهي لسنة 2002، وصولا إلى دستور 2014 وما ورد فيه من قضايا تتعلّق بالتربية، كذلك ما جاء في الكتاب الأبيض الصادر عن وزارة التربية سنة 2016، فإنّ ما يمكن ملاحظته فيما يرتبط بالأهداف المعلنة من العمليّة التعليميّة هو الحضور الدائم لمسألة الهويّة سواء تعلّق الأمر بالهويّة الوطنيّة أو العربيّة أو الإسلاميّة، لتقدّم إحدى أشكال الهويّة على الأخرى في كلّ مناسبة وفق الظرف السياسي وتوجّهات أصحاب القرار الفكريّة والإيديولوجيّة الواقعة ضرورة تحت إكراهات التحوّلات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والوضع الداخلي والخارجي أيضا.
لا نسعى من وراء مثل هذه الملاحظة إلى فصل الرؤية إلى التربية والتعليم عن كلّ أنواع الظروف التاريخيّة وتوجّهات السلطات السياسيّة الحاكمة فصلا كلّيّا إذ من الطبيعي بل من الضروري أن تكون العمليّة التربويّة وما تتضمّنه من برامج وغيرها في قلب اهتمامات تلك السلطات وإلاّ كانت السلطة القائمة مهملة لمسألة استراتيجيّة كبرى، ولكن الإشكال يبقى في طبيعة ذلك الاهتمام، فهل هو يعتبر التعليم هدفا استراتيجيّا أو أداة خادمة للسلطة القائمة في ظرفيّة معيّنة ووسيلة «قهريّة» على حدّ عبارة بورديو بحثا عن الهيمنة وعن انسجام اجتماعيّ وهميّ قائم على التنميط وفق ما تروم السلطة الحاكمة تكريسه وفرضه على واقع ومجتمع متحوّلين؟ وهل إنّ ما يقرّر من توجّهات وبرامج يساير المتغيّرات المتسارعة والثورات الفكريّة والحقوقيّة والتكنولوجيّة أو سعي دائم للوقوف العقيم في وجه تلك المتغيّرات بمحاولة تقديم ما يُعتبر من «الثوابت» الثقافيّة والهوويّة المتعدّدة لا إيمانا بثباتها دائمًا بل ليكون التعليم خادم التوجّه الإيديولوجي المحنّط للسلطة؟
في هذا السياق العام الّذي تلخّصه الأسئلة المطروحة آنفًا أصدرت جمعيّة «فواصل» للدراسات الفكريّة والاجتماعيّة بالتعاون مع المعهد الدولي الإنساني كتابا جماعيّا عن دار نيرفانا تحت عنوان « البرامج التعلميّة في تونس والتربية على التعدّد: تعليم أرتودكسي في واقع متغيّر». وقد جاء الكتاب في أكثر من 350 صفحة ضمّت سبع ورقات بحثيّة أنجزها باحثون وباحثات شابّات وشبّان تحت إشراف لجنة علميّة تألّفت من أساتذة من اختصاصات معرفيّة مختلفة.
تناول هذا العمل البرامج التعليميّة في تونس خلال سنوات التعليم الابتدائي والسنوات الثلاث الأولى من التعليم الإعدادي من جهة مخصوصة هي مواءمتها لما يشهده الواقع التونسي من تعدّد وتحوّلات على كافّة الأصعدة كذلك من جهة تعبير مضامين تلك البرامج ما يعتبر من ضمن «الثقافة الديمقراطيّة، إذ أنّ تلك الثقافة تأخذ بعين الاعتبار صنوفا مختلفة من التعدّد مثل التعدّد اللغوي والجهوي والاجتماعي والسياسي والإيديولوجي والديني والمذهبي والجندري ليكون السؤال الجامع هل إنّ ما يقدّم في البرامج التعليميّة والتربويّة يأخذ بعين الاعتبار صنوف ذلك التعدّد أو أنّها برامج واقعة تحت وطأة التنميط الهووي والإيديولوجي والسياسي فيما يتعلّق بمستويات التعدّد المذكورة؟
وللإجابة عن هذا السؤال قدّم المساهمات والمساهمون ورقات بحثيّة مهمّة وفق مشاغلهم في إطار العمل الجماعي ولكن مع ضمان حريّة الرأي الفرديّة أيضا، وكان ذلك انطلاقا من عمل تحليلي لنماذج من البرامج التعليميّة تتعلّق بستّ مواد إضافة إلى ورقة أولى خاصّة بالسنوات الثلاث الأولى من التعليم الابتدائي. وقد جاء الكتاب في قسمين كبيرين وتعلّق القسم الأوّل بما رآه المشرفون على الكتاب مشكّلا لـ «نماذج هوويّة» تضمّنتها البرامج التعليميّة، أمّا القسم الثاني فمداره المفارقة الواضحة بين الواقع المتعدّد وما سمّاه أصحاب الكتاب «تعليمًا منمّطًا».
في هذا السياق العامّ اندرجت ورقات الباحثات والباحثين في العمل فكان اهتمام الباحثة أميرة هميلي، بما تعلّق من برامج خلال السنوات الثلاث الأولى من التعليم الابتدائي، مع التركيز بالأساس على قضيّة التمييز الّذي لاحظته الباحثة في مستويات عديدة من البرامج التعليميّة ممّا يؤسّس لأشكال كثيرة من الانغلاق الهووي يأخذ أبعادا متعدّدة.
وعالج ناظم بن إبراهيم أستاذ العربيّة والباحث في الحضارة الإسلاميّة قضيّة «التأصيل الهووي» الّتي حاول رصدها في برامج العربيّة ويرصد «توزيع الأدوار الاجتماعيّة» وما يحمله ذلك من منطق تمييزي يؤثّر في ذهنيّة المتعلّمين.
ومن زاوية قريبة من هذا التوجّه دقّق حازم الشيخاوي أستاذ الفلسفة والباحث في الدراسات الجندريّة النظر استنادًا إلى قراءة تقاطعيّة برامج مادّة التربية المدنيّة فوضّح أشكال التقاطع بين بنى الهيمنة المتعدّدة.
ونظرت سلمى بنعمر أستاذة الفرنسيّة في مادّة الفرنسيّة وبرامجها فحلّلت جملة من القضايا ذات العلاقة بمبدأ التسامح/ اللاتسامح، وما يرتبط به من مسائل الغيريّة والآخريّة والاختلاف والمواطنة، ومدى مواءمتها لما تعلنه المدرسة نظريّا من التزام بتكريس هذه القيم.
وقدّم رامي البرهومي أستاذ العربيّة والباحث في الحضارة العربيّة والإسلاميّة قراءة في برامج التربية الإسلاميّة ليكشف عن «انغلاق النموذج الديني» مقابل، «التعدّد الثقافي» ليوضّح أنّ تلك البرامج في مجملها تؤدّي إلى خلق نماذج هوويّة مغلقة.
وكشف فهمي الرمضاني أستاذ التاريخ والباحث فيه من خلال تحليل مضامين مادّة التاريخ عن البوْن بين ما يتمّ الإعلان عنه نظريّا من تنشئة على التعدّد وقيَم الاختلاف من ناحية أولى، وما نقف عليه في البرامج الرسميّة من ناحية ثانية، إذ وقف على ما اعتبره تغييبا لروافد كثيرة في تلك البرامج ممّا خلق تمثّل منقوص للانتماء الحضاري ومكوّناته.
واشتركت أميرة هميلي وسندة العرفاوي الباحثتان في الآداب الأنجليزيّة وآدابها وحضارتها في صياغة ورقة بحثيّة تستند إلى تحليل نماذج من برامج تعليم اللغة الأنجليزيّة لرصد مدى حضور الثقافة الديمقراطيّة مثل التعدّد الإثني والتعدّد الجندري والتعدّد الديني والتعدّد الجهوي.
يمثّل هذا العمل بما تمّ التوصّل إليه من نتائج محاولة لمقاربة الشأن التربوي والتعليمي في تونس من زاوية الإلحاح على التعدّد والثقافة الديمقراطيّة من خلال تحليل مضامين البرامج والمقرّرات ممّا يجعل تلك النتائج بدورها فاتحة لأعمال أخرى ستسعى جمعيّة «فواصل» إلى تركيزها خلال المدّة القريبة القادمة، ولعلّ الندوة الإعلاميّة لتقديم العمل يوم 29 جوان 2022 بمعهد تونس للترجمة بداية من العاشرة صباحا يفيد في فتح مجالات أخرى للبحث.
البرامج التعليمية في تونس والتربية على التعدد: تعليم أرتودكسي في واقع متغيّر
- بقلم نادر الحمامي
- 12:20 24/06/2022
- 1984 عدد المشاهدات
إذا قصرنا النظر على تاريخ القضيّة التربويّة والتعليميّة في تونس على ما شهدته من تحوّلات بداية من دولة الاستقلال وتحديدا