بما فعلوه بأنفسهم وبما أعانهم عليه قيس سعيد، زيادة عن حصوله على المساندة الواسعة في خصوص ضربة 25 جويلية نتيجة الوضع السياسي الكارثي الذي سبقها، كما تدعمه ماكينة فايسبوكية مجندة، وقد قام بكل عملياته ومن وراء ظهره واقفون في الصورة قيادات الجيش والأمن التونسيين.
أي أنه ليس في حاجة لأي حوار وطني حسب التعريف المطلوب في مثل هذه الحالات، والذي يعني تجميع أوسع ما يمكن من القوى حول الحد الأدنى الوطني والديمقراطي. حيث أن السيد قيس سعيد يعتبر نفسه على حد من الشرعية والمشروعية، كما يردد ذلك يوميا، بما يمكنه من أن يبادر كما يشاء، وحسب التصور الذي يريد. وكل ما هو خلاف لذلك فهو، حسبه، محاولات يائسة للالتفاف على تلك الشرعية والمشروعية، ولن يترك ذلك يمر. أي أنه لا يعتبر بالمرة أن البلاد في مرحلة لا تزال تحتاج إلى البناء المشترك، رغم عيوب وتعثر مثل ذلك التمشي الذي لا خيار عنه، وإنما كل ذلك النوع من المحاولات اعتبرها قد حصلت بعد وانتهت إلى اختياره هو كمسطر ومنفذ جديد وأخير لمجمل المسار المستقبلي بدون أي منازع في ذلك.
وفي حقيقة الأمر يمكن اعتبار أن تفكير قيس سعيد لا يخلو من نوع من المنطق حيث هو يقول: لقد جربتم وفشلتم وجاء دور من يرى غير ما ترون ويفعل كما لم تفعلوا، فأفضل ما يمكن أن تقوموا به هو أن تسلموا له بأمر البلد الذي أوكل إليه شأنه وسيمارس المسؤولية بأكملها حتى النهاية ولن يتراجع ولن يشرك، لأن في التشريك إخلالا بالشرعية والمشروعية إلا لمن هو مستعد مسبقا للإمتثال للخيارات والتوجهات والقرارات الرئاسية.
ما هي حظوظ ما هو خلاف مثل هذا المنطوق؟ وما ذا تبقى لهذا أو ذاك أن يبني له موقفا أو مبادرة خارجة عن الخط والخطة التي وضعها قيس سعيد من زمن بعيد، منذ قبل 25 جويلية بكثير جدا ولم يلبث في تطبيقها بحذافيرها إلى حد الساعة وبعدها؟
ولا يهم أن يفضي التمشي إلى دستور مشوه وقانون انتخابي على المقاس وانتخابات فاشلة على شاكلة الاستشارة، وهل مشكلة هذا البلد المشلول وذي المعنويات غير المرتفعة بالمرة هي دستور وقوانين وهيئات انتخابية وانتخابات؟ وهل ستأتي كل هذا الإجراءات بوضع أفضل من انتخابات 2019 التي أتت بقيس سعيد صاحب التجربة السياسية الصفر وبالبرلمان المنحل الذي انتخب بالتوازي معه دون أن يعير تلك المسألة، مسألة التكامل والتجانس الأدنى الضروري بين التشريعي والتنفيذي، أي اهتمام؟
وحتى مسألة التخوفات من الخارج الغربي وصندوق النقد الدولي فإنها سائرة نحو التنسيب الكبير بعد حلول الحرب الدولية التي ستقلب الدنيا «سافيها عل عافيها»، وستنتهي ضرورة إلى تمكين تونس، المسألة المتواضعة مقارنة بما يجري، من جرعة أكسجين تنقذ اقتصادها من الموت لمدة ما تبقى من السنة الحالية، في انتظار الخوض في أمر الجرعة اللاحقة.
وحقيقة ما يجري في تونس هو درس الاكتواء الاجباري بنار الخيار الديمقراطي، الخيار المتقدم عن غيره كما عرفناه سابقا بدون أي شك، لكنه الخيار الخطير، لأنه مفتوح على كل الفرضيات والاحتمالات، بينما ما كان موجودا من قبل كانت فيه حماية للدولة والاقتصاد، صحيح، لكن في نفس الوقت كانت فيه محاصرة لصيقة للمجتمع.
ولو يتم اليوم استفتاء نزيه تشرف عليه الأمم المتحدة لتخيير التونسيين بين الديمقراطية بمصاعبها والتسلط بفوائده، ستكون الأغلبية فحسب، وليس الفوز الساحق، للديمقراطية.
وقد تكون هناك بعض البدايات المحتشمة جدا في خصوص إدراك مخاطر الديمقراطية عندما لا يحصل حسن استعمالها، كما قد تحصل بدايات وعي ضئيل بخطورة الاندفاع في اتجاه التصويت لفائدة من عرف بكونه نظيفا بقطع النظر عن كونه نظيف من كل شيء بما فيه من الحد الأدنى لما يعنيه دور رئيس جمهورية في اتجاه كل التونسيين، في ظرف استثنائي ودقيق وحساس لا يسمح بالمواجهة لكل التحديات السياسية والاجتماعية والمؤسساتية والأخلاقية والدولية بضربة واحدة، بل لا يزال يتطلب مجهودات كبيرة للتأليف والتجميع والبناء المشترك والمقنع والمحمي من الارتدادات والانتكاسات والممكن من السلم الأهلي واسترجاع الثقة والعناية كأولوية مطلقة بالاستجابة لمطالب الناس في الأمن والأمان ونظافة المكان واقتناء الضروريات المعيشية وتشغيل العاطلين عن العمل رغم شهائدهم العليا ومصاريف عائلاتهم.
ولا شك أن استراتيجية السيد قيس سعيد الانفرادية والانعزالية تتغذى من الفشل السياسي الذريع على أوسع نطاق. لكن هل يعني أنه محكوم على التونسيين بالمؤبد بحل كل فشل بفشل لاحق لا يستمد شرعيته ومشروعيته إلا من الفشل السابق؟
وترتكز خطة رئيس الجمهورية على نظرة وتصور متجانسين في اعوجاجهما، حيث تعني النظرة أنه لم يبق في تونس إلا «الصادقون» الذي اختاروا قيس سعيد و»الفاسدون» الذين سيعمل على القضاء عليهم قضاء مبرما، ولا شيء بينهما، أما التصور فهو متماه مع النظرة، حيث يريد السيد قيس سعيد تنظيما للمجتمع فيه «تمثيلية قاعدية أغلبها عن طريق القرعة» تعوض البرلمان ورئيس بيديه كل الصلاحيات وتكون فيه الحكومة مجرد أداة تنفيذ لديه. هذا هو التقسيم المجتمعي الذي يقر به وهذا هو الأفق الديمقراطي الجديد الذي يبشر به قيس سعيد التونسيين.
ونظرا للتفكك والانحلال السياسيين اللذين عليهما البلاد، لا في الأفق ما سيوقف ذلك، إلا إمكانية ضئيلة لكن صعبة، قبل ديسمبر 2022 موعد الانتهاء من تنفيذ مجمل المخطط المسطر. ومراهنة السيد قيس سعيد هو تحريك «حزبه الباطني» لكي يحتل كل المواقع، وقد زرعه بعد في الولايات والمعتمديات وشيئا فشيئا في سائر دواليب الدولة، بما سيمكنه، حسب تصوره، من «الحكم المريح»، دون الالتجاء إلى المنصات الصاروخية.
لكن أمام هذا التصور وبالرغم من الضعف والوهن الفكري والسياسي للساحة التونسية، فإن 2022 غير مضمون بالكامل، وما بعد 2022 وقبل 2024 غير مضمون، وكذلك 2024، الذي لا يشتغل قيس سعيد إلا عليه، غير مضمون أيضا.
فهل تستغل كل هذه المسافات الزمنية لتجاوز العجز الذي ولد الارتجال الممنهج؟
سؤال الجواب عنه لا يمتلكه إلا التونسيون.
حقيقتنـــا السيــــاسيـــة
- بقلم بوجمعة الرميلي
- 10:11 05/05/2022
- 920 عدد المشاهدات
بالنسبة للسيد قيس سعيد، رئيس الجمهورية، بين يديه كل المفاتيح، حيث هو من ربح الرئاسية والآخرون هم من خسروا الموقع البرلماني،