في شتّى الميادين النضالية وخاصة المتعلّقة، بالشأن العامّ والعمل السياسي.
إنّ رحلة البحث عن حق المواطنة السياسيّة للمرأة التونسيّة لم تبدأ مع مجلّة الأحوال الشخصيّة ولا باكتسابها لحقّها في الانتخاب ولا لحقّها في الترشّح، ولم تنته هذه الرحلة مع حصولها على حقّها في المشاركة في العمليات الانتخابية ولا في حقها في المساواة التامّة وإنما عبر التحولات المجتمعية لتصبح قناعة مترسخة في المجتمع بعيدا على الاسس التشريعية للحركة
لقد ساهمت المرأة التونسيّة في معركة التحرير الوطني منذ لحظاتها الأولى، فكانت حاضرة بقوّة في شتّى أشكال النضال وفي مختلف ساحاته، معرّضة نفسها للقمع والتعذيب تارة وحتّى للموت والاستشهاد في سبيل الوطن تارة أخرى، وسيذكر التاريخ النساء المناضلات الوطنيّات اللواتي تمكّن من افتكاك مواقع ومسؤوليات طلائعيّة في الشأن السياسي، أمّا اليوم ومع مرور الزمان، أخذت الحركة النسويّة أشكالا مختلفة وانضوت في هياكل مدنيّة كالجمعيّات والمنظّمات، ولئن اختلفت الأشكال إلاّ أنّ الأمانة لا زالت محفوظة كما لا لازال الهدف هو نفسه، وهو الذود عن المكسب والسعي إلى تعزيزه طبقا للمبادئ الكونيّة لحقوق الإنسان.
وعلى الرغم من تمكّن الحركة النسويّة من تحقيق العديد من المكاسب الهامّة، إلاّ أنّ الرحلة نحو تحقيق المساواة الفعليّة والتامّة لازالت طويلة، وأكبر دليل على ذلك هو ما تشهده قضيّة المساواة في الميراث وفي امتلاك الأراضي واستخدامها والتحكم فيها من تسويف وتأجيل في الحسم، على الرغم من اعتماد العديد من القواعد والمعايير العالمية لتعزيز المساواة المبنية على النوع الاجتماعي وتحفيز التغيير في الأطر المؤسسية والقانونية الاجتماعية، وبصفة عامّة، تبقى بعض المسائل المتعلّقة بحقوق المرأة عالقة كالعنف المسلّط عليها والمسّ من حرمة جسدها وغياب المساواة في الأجر والوظيفة بالإضافة إلى هضم حقّها في الملكيّة العقارية المنتشر خصوصا في الوسط الريفي، دون ان ننسى غياب التوازن بين واجبات المرأة في بيتها وأسرتها مقارنة بتلك المناطة بعهدة الرجل.
ولئن تعدّدت النصوص القانونية والتشريعات التي تحاول أن تقطع مع التفاوت بين المرأة والرجل وتكرّس مبدأ المساواة بينهما، إلاّ أنّ أشكالا من التفاوت الاجتماعي والاقتصادي ما يزال مستعصيا ولم تلغه النصوص ولا الممارسات، حيث انعدم التجاوب مع النسب الهامة للنساء المتحصلات على الشهائد العليا
بالجامعات التونسية، نظرا لان التقاليد والعادات وهيمنة المجتمع الذكوري هي المحددة في أخذ القرار وهي لعامل من العوامل المتسبّبة في الضغط على جلّ إمكانيات وفرص تغيير الواقع.
وتحمل المعاهدات والمواثيق الدولية ومختلف الإعلانات الرسمية الحكومات مسؤولية حماية وتعزيز حقوق المرأة، ولكن الواقع يؤكّد لنا أنّ الحكومات المتعاقبة لم تكرس مبدأ العدالة والإنصاف ويبقى السبيل الوحيدة لتكريس حقوق المرأة وضمان مبدأ المساواة هي الفعل لا القول، الفعل في مختلف أشكاله وتعبيراته، فالكلام الرنّان والشعارات الجوفاء لن تغيّر من واقع مجتمعنا شيئا. ففي بعض الدول المتقدمة تحظى مبادرة «الحقّ في المدينة المندمجة» بترحيب واسع، وتقوم هذه المبادرة على دفع السلطات المحليّة والجهوية نحو رسم سياسات عامّة تأخذ بعين الاعتبار البعد الجندري وتمثيليّة المرأة في الهياكل المنتخبة وغير المنتخبة لمواجهة مختلف التحديات بالإضافة إلى تشريك المرأة في ضبط وتطبيق كلّ الاستراتيجيات والخطط الوطنية المتعلّقة بالمساواة بين المرأة والرجل.
قد يعتبر هذا التمشّي حلما بعيد المنال في واقعنا الوطني، خاصة بالنظر إلى ضعف إمكانيات البلديات وانشغالها بمهامها اليوميّة الكلاسيكيّة، إلاّ أنّ التمويلات والاعتمادات والبرامج المموّلة من قبل المانحين الدوليين والمنظّمات غير الحكومية يمكن أن تمثّل دافعا ناجعا وشريكا فاعلا للسلطة المحلية لتغيير هذا الواقع وجعله واقعا أكثر مسؤولية وأكثر استدامة.
ويمكن لمؤسّسة «البلديّة» ان تستوعب الفضاء الذي يتيح للنساء التونسيّات خلايا إنصات وتواصل، كما يمكن لها أن تستوعب الفضاء الذي تعبّر من خلاله المرأة عن رغبتها في الانخراط في الشأن العام وعن إرادتها في المشاركة في رسم مستقبل بلادها، وتعزيز مشاركتها وتمثيلها في هذه العمليات خطوة نحو تحسين تمكينها وتبوأها المراكز القيادية، ومثل هذه المبادرات لا تستوجب تمويلات ضخمة بقدر ما تتطلّب إرادة صادقة في الدفع إلى التغيير وإلى العدالة الاجتماعية لا سيّما وأنّ خدمات البلديّة تتسّم بالقرب، وبإمكان السلطة المحليّة أن تجد حلولا ناجعة لمشاكل ملموسة. كلّما اقتربنا من المناطق المعزولة كلّما أصبحت هذه الخدمات حيويّة، فبكلّ بساطة، إذا غابت البلديات في الأرياف غاب المخاطب المباشر والوحيد للمواطنين والمواطنات. وفي ظلّ الوضعيّة الصعبة التي تمرّ بها البلديات في ما يتعلّق بالخدمات العموميّة، خاصّة في الأوساط الأقلّ حظّا في التنمية، يمكن للبلديات ان تساعد على تشكيل «تعاونيّات» للاستجابة لنقص الخدمات وضعفها، كحضانة الأطفال في المواسم الفلاحية موسم جني الزيتون مثلا وغيره من المنتجات الفلاحية أو تنظيم التنقّل لمسافات قصيرة للعاملات الفلاحات. كما يمكن للبلديات والهياكل المحلية أن تساعد النساء العاملات في القطاع الفلاحي والنساء القاطنات في مناطق معزولة على التسجيل والانخراط للحصول على تغطية اجتماعية تضمن حقّهنّ في مقوّمات الحياة الكريمة. كما يمكن للبلديات أن تلعب دور همزة الوصل بين المواطن والتشريع في المجال الاقتصادي والاجتماعي عبر قانون الاقتصاد الاجتماعي والتضامنيّ وذلك بالقيام بدور الوسيط الفاعل بين كلّ المتدخّلين، بين الجمعيات
والمنظّمات الراغبة في المساهمة في برامج رفع الأميّة عند المرأة (الذي يصل الى 30 ٪) والمؤسسات التضامنية المسدية للقروض الصغرى لمرافقة المشاريع المحدثة ومتابعتها.
وعلى الرغم من أنّ المرأة في الوسط الريفي تمثّل أكثر من 80 ٪ من مجموع اليد العاملة إلاّ أنّ 15 ٪ منها فقط تملك وضعيّة مهنيّة قانونيّة، وهوما يعد خللا في المنظومة الاجتماعية فضلا عن أنّه يطرح وضعيّة ظالمة وغير مقبولة.
كذلك في حالة نقص الطاقة والمياه ومرافق الصرف الصحي، يجب على النساء والفتيات تكريس الكثير من أوقاتهن لإيجاد وجمع موارد الطاقة والمياه. ومع ذلك، وعلى الرغم من استخدام النساء للموارد الطبيعية وإدارتها، فهن ما زلن لا يتمتعن بصوت متساوٍ عندما يتعلق الأمر بصنع القرار.
في المقابل، يعّد الدور الذي تقوم به المرأة في الوسط الريفي دورا محوريّا سواء في تحقيق الأمن الغذائي أو في المحافظة على البيئة والتوزان الطبيعي وفي ظل أزمة المناخ العالمي، فمن الضروري تسليط الضوء وإعادة التفكير في العلاقة مع الطبيعة والأخذ بعين الاعتبار لهذا الوضع العالمي باعتماد مقاربة التنمية المندمجة والمستدامة.
إنّ النضال من أجل مراجعة الخيارات الوطنية والسياسات العامة التي تكرس مبادئ العدالة والإنصاف تعتبر ضرورة اخلاقية في المجتمع ومطلب أساسي لتحسين الوضعية الاقتصادية والاجتماعية للمرأة، إذ أنّه لا يمكن تحقيق المواطنة التامّة والفعليّة في ظلّ غياب المواطنة الاقتصادية والاجتماعية طبقا لما ينص عليه الدستور.
بقلم: هالة بن يوسف
نائبة الاشتراكية الدولية للنساء لمنطقة المتوسط شمال جنوب