، فإلى جانب الهجوم الذي شنّته بعض الصّحافة المصريّة ومواقع التّواصل الاجتماعي، تدخّلت مؤسسة الأزهر بثقلها في الأمر وأصدرت بيانا وضّحت فيه موقفها من الفنّ وحرّية الإبداع وجاء فيه «إنّ التّمرّد على الفضيلة والتنكّر لقيم المجتمع السّويّة بمخطّطات وحملات ممنهجة ليست حرّية أو تحرّرا أو إبداعا بل هي إفساد وإضعاف للمجتمعات».
من جهة أخرى تقدم عدد من المحامين برفع دعاوى لدى القضاء المصري لوقف عرض الشريط، إنّ هذا الهجوم الكاسح على الفيلم وعلى كل من مثّل فيه وساهم في انجازه، يعيد إلى السّطح الجدل حول كل عمل فنّي يخرج عن المألوف وعن مفاهيم»الأخلاق العامّة» السائدة في المجتمعات العربيّة.
ورغم أنّ هاته المجتمعات وبالخصوص في مصر، شهدت منذ بداية القرن العشرين نهضة فنّية كبرى، في المسرح وفي السّينما وفي الموسيقي، وأحدثت مدارس خاصّة بها عانقت العالميّة أحيانا، لكن ذلك وفي جزء منه تمّ بعسر كبير وبمعاناة الكثير من الفنّانين الّذين واجهوا ألوانا من الصّد والعذاب في حياتهم الفنّية والخاصّة، فمنهم من أنهى حياته في الفقر والتهميش ومنهم من عانى من مرارة التّجاهل والنّسيان بعد المجد والشهرة، وعبّر ملك الزجل الشاعر محمود بيرم التّونسي عن إحساسه بالغبن والخذلان في بلد الحضن مصر أو في بلده الأم تونس بهذه الأبيات من قصيدته «آهات»:
... الأوّلة آه ...والثانية آه ...والثالثة آه..الأوّلة :مصر قالوا تونسي ونفوني ...والثانية: تونس و فيها الأهل جحدوني...والثالثة: باريس وفي باريس جهلوني.
أمّا ما حدث للفنان المتعدّد المواهب نجيب سرور صاحب قصيدتي «حلّوا المراكب» و«البحر بيضحك ليه» اللتين كانتا من أروع ما غنّي الشيخ إمام يبلغ درجة المأساة، فلقد أمضى حياته في صراع مفتوح مع سلطات بلاده سواء أيّام «عبد النّاصر» أو أيّام «السّادات» فلم ترحمه آلات القمع التي مارست عليه فنونها وقدراتها العجيبة في التعذيب قبل أن تتّهمه بالجنون وتحبسه بمستشفى المجانين إلى أن مات هناك سنة 1978، لقد خلّد نجيب سرور في هذه الأبيات الشعريّة التي صورت عمق إحساسه بالظلم والقهر الذي تعرّض إليه في علاقته بالسّلطة:
«يا حارس السّجن ليه خايف من المسجون، هي الحيطان اللي بيناقش يا ملعون، وإلاّ السّلاسل ورق وإلاّ السّجين شمشون».
إسماعيل ياسين نجم الكوميديا الأول في عصره عاش ظلما من نوع اخر ومن طرف الذي كانوا يتظاهرون له بالمحبّة والإخلاص حين كان يتربّع على عرش الكوميديا في الستينات والسبعينات من القرن الماضي وظن الجميع ينعم ببحبوحة من العيش، لكنّه لم يجد أحدا يمدّ له يد المساعدة ويّنقذه من الإفلاس، فعاش اخر أيّامه مكتئبا ومهموما ومات في ظروف بائسة...
حتّى سندرلا الشاشة العربيّة سعاد حسني التي ألهبت مشاعر وخيال أجيال من عشاق السينما بالعالم العربي، لم تجد أحدا يقف إلى جانبها وهي تواجه المرض واليأس بعد أن هجرتها الأضواء وتبخّر جمالها إلى أن انتهت بإلقاء نفسها من شرفة العمارة التي كانت تقطن فيها سنة2001 وسقطت في ضباب لندن جثة هامدة على الرّصيف، صورة تجسد نكران وجحود العالم الذي يحيط بها !!
الفكاهي التونسي صالح الخميسي ذلك الصوت الساخر والمرح الذي كان معاصرا لجماعة تحت السّور وقد غنّى من أشعارهم، صار في اخر أيّامه يشتغل في بيع الفحم بعد أن ضربت السّلطة حصارا على أغانيه وأوقفت الإذاعة بثها ، ذنبه أنّه اعتقد بأنّ لدى سلطة الاستقلال مساحة من التسامح لتقبّل فنّ الفكاهة والهزل، لكنّ هاته الأخيرة ألقت به في السجن لمجرّد إصداره لأغنية ساخرة حولها، ولم تطل أيّامه كثيرا بعدها، ومات وهو يعاني من البؤس والخصاصة سنة 1958.
وما تتعرّض إليه اليوم الممثلة المصريّة منى زكي من تجريح وتشنيع ليس بجديد فقد تعرّضت إليه قبلها الممثّلة المغربيّة «لبنى أبيضار» من خلال حملة «حقد» وتشهير غير مسبوقة بسبب تقمّصها لدور مومس في فيلم «الزين اللي فيك» وقد بلغ الأمر حدّ تعرّضها للعنف وللتّهديد، ممّا اضطرّها لمغادرة المغرب واللّجوء للعيش بفرنسا.
و تدفع اليوم منى زكي ومن معها من الممثّلين في فيلم « أصحاب ولا أعز» ،ثمن تقمصها لدور جريء يفضح حالة الانفصام التي تعيشها هاته المجتمعات في علاقتها بحرّية الإبداع، مجتمعات تسعى للظهور في تطابق مع موروثها الثقافي وقيمها المحافظة، وفي نفس الوقت تتستّر على انتشار المخدّرات والإتّجار
بالجنس و تفشّي المثليّة داخلها، وتصر هذه المجتمعات على مواصلة تجاهل التغيّر الحاصل في السّلوكيّات والعلاقات بين الأزواج والأصدقاء في بعض الأوساط الاجتماعية بسبب ادمانها المفرط على وسائل التّواصل الافتراضي والتي أصبحت عنصرا محددا في حياتها المعلنة والخفيّة.
ورغم تطور الواجهات الثقافية والفنية في الظاهر، فان هذه المجتمعات تستمر في استعمال الرقابة بتعبيراتها المدنية والدينية لمحاصرة حرية الابداع والحد من تأثيره، وتسليط شتى أنواع الاضطهاد المعنوي والنّفسي على المبدعين وخاصّة العنصر النّسائي منهم.